اليوم هو الثانى من أيام عيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا جميعاً بالخير واليمن والبركات، من زمان لم نعد نردد هذه الكلمات الجميلة الأصيلة، التى تحمل عبقة زمن مضى قبل أن تداهمنا تهانى رسائل المحمول بكلماتها المرصوصة والمكررة، والخالية من الدفء والود، حتى أصبحت معها التهنئة الحقيقية بالتواصل عبر الصوت الآدمى من المواقف النادرة، مثلها مثل كثير من الأشياء والمعانى التى نالها الجفاف. وحتى جاء العيد ومنذ أسابيع لم تكف القنوات التليفزيونية وبرامجها الفضائية عن السؤال والجواب فى موضوع الأضحية، كل يدلى برأيه فى مسائل وتفاصيل هى الأقرب الى البديهيات، البعض يحرمها والبعض يجيزها وكثيرون يضيعون بين الرأيين المتعارضين، والجميع ينسى أن الغاية هى تحقيق التكافل بين المسلمين وتأكيد فكرة الطاعة والعطاء والمشاركة والمساهمة بالمال فى شراء الأضحية لتوزيع معظمها على الأقارب والأصدقاء والجيران وثلثها على الأقل للفقراء، وبالتالى يصبح من قبيل الأعمال الصالحة زيادة مقدار الثلث للفقراء إلى النصف أو الثلين، أو حتى كامل الأضحية، هو من قبيل الأعمال الصالحة فى حالة أسر وجيران وأقارب من الموسرين والأغنياء أو ممن لا يفضلون لحوم الضأن، أو ممن يؤثرون على أنفسهم لإطعام من هم أكثر منهم احتياجاً ابتغاءً لوجه الله تعالى، المسألة بسيطة والغاية واضحة لكن متحدثى الفضائيات يصولون ويجولون ويفتون فى عشرات البرامج، حول ومع وضد الموضوع. وربما كان من أطرف ما جاء فى هذا العيد بالذات سؤال عويص تكرر كثيراً، وأصبح حديث الناس عن مشروعية أكل صاحب الخروف وأهله كبد الخروف بالذات، وبدأت المسألة بسؤال فى أحد برامج الفضائيات لمشاهد عن خروفه الذى يوزعه بالكامل على الفقراء، لكنه يستبقى الكبد بالذات حيث يقوم بتحميره صباحاً ويعتبره أهل بيته إفطار العيد، والسؤال لا يحتاج إلى إجابة إلا بالهنا والشفا لكن ضيف البرنامج الموجه إليه السؤال أبى إلا أن يعقد المسائل ويفذلكها، ويؤكد بصوت جهورى وبنبرة حازمة أنه لا يجوز لمسلم فى هذه الحالة أكل الكبد، لماذا؟ يجيب لأنك تستبقى جزءاً تحبه. وترغب فيه وهذا غلط، فمادمت تحب الكبد فعليك بتوزيع الكبد، وبالتالى فإذا كنت تحب الممبار فلا داعى للممبار، وزعه وكل جزءاً آخر، وإذا كان لحم الرأس تخلص من الرأس واحتفظ بالكتف. وبسرعة ذاعت هذه الفتوى، وانتشرت، وأصيب بالخوف كل من كان يأكل الكبد - وهم كثيرون - واعتبر نفسه آثماً مذنباً فى حق نفسه وفى حق الفقراء الذين أهمل نصيبهم فى الكبد طوال الأعوام الماضية واستأثر بها لنفسه ولأهل بيته صحيح أنه لم يقصد لكنه أيضاً لم يسأل ولم يستفت، ولم يلجأ إلى أهل العلم كى يتيقن من صواب سلوكه تجاه الخروف وتجاه الناس. والغريب أن يتكرر نفس هذا السؤال عن مشروعية أكل الكبد بالذات فى قنوات أخرى وبرامج أخرى، وكأنما اكتشف الناس أنهم أمام معضلة لابد لها من حل: ماذا يأكلون؟ وماذا يستقطعون وماذا يستبعدون، ودفع كل ذلك السجال «مفتى فضائى» آخر أن يؤيد الرأى الأول، وأن يزيد عليه بقوله إن ما تحبه أو تستطعمه أو تفضله بشكل عام من أجزاء جسم الأضحية لا تأكله، بل يجب أن توزعه، وإذا سألت لماذا مادام لصاحب الأضحية الثلث فما المانع أن يستقطع الثلث، الذى يريده، والإنسان دائماً ينتقى ما يحبه، وعليه أن يأخذه دون تزيُّد أو مبالغة أو انتقاء متعمد لأفضل أجزاء الأضحية؟ ومن أى حكم شرعى جاء هذا الرأى؟ ودائماً تكون الإجابة بلا تفكير أو تمحيص أو مراجعة هذا هو رأى الشرع الذى ذكره الشيخ فى الفضائية، ويستقر الرأى وينتشر، ويصبح مع الأيام حكماً مسلماً به. وهكذا وفى هذا العيد وصلت إلينا بفضل الفضائيات وبرامجها ومشايخها إضافة جديدة، مفادها ممنوع أكل كبد الأضحية، وكمان ممنوع أن تنظر إلى جسم الأضحية، وتطمع فى جزء عزيز منه، وهكذا أيضاً نواجه عالم القرن الحادى والعشرين بالمزيد من التعنت والتشدد والتضييق والتعسير، وبصراحة بمزيد من الفكاهة والضحك لكنه ضحك كالبكا. [email protected]