حين يذهب مجموعةٌ من الأصدقاء إلى مطعم ليلتفّوا حول وجبة من البطاطس المقلية، هل تخطرُ ببالهم الرحلةُ الطويلة التى قطعتها حبّةُ البطاطس، أو حبّة القمح التى ستغدو رغيفا، منذ بذرْها فى التربة حتى تصلَ إليهم فى صحن أنيق يحملُ توقيع المحل؟ أيُّ يدٍ حفرتِ التربةَ؟ أىُّ يدٍ دسّتِ الجذرَ أو البذرة؟ أىُّ يدٍ روتِ الأرضَ، وراقبتِ انشقاقها، وانبثاقَ برعمٍ، سيشتدُّ عودُه بعد يوم حتى تستوى عليه الثمرةُ باسقةً شهية تَسُرُّ الناظرين. يومٌ آخر وتتوهجُ بنضجها لتنتظرَ اليدَ القاسية التى ستنزعُها من رَحِمها. لكنها، ثمرةَ البطاطس، شأنها شأنَ الأنبياء والمناضلين الذين يبذلون أرواحَهم من أجل آخرين، ستقدم عمرَها القصيرَ راضيةً مرْضية. ثم تستسلمُ فى أكفانها الخيش إلى شاحنةٍ ستنقلها إلى مذبحتها الجديدة. يدٌّ تخلعُ عنها الكفنَ، وأخرى تنزعُ القشرةَ، وأخرى تُقطّع الجسدَ الغَضَّ العارى شرائحَ، ويدٌ أخيرة تزجُّ بها فى المحرقة. ثم أيادٍ كثيرةٌ، أيادى الأصدقاء سالفى الذكر، تدسُّ الشوكةَ، وتلتهم. قليلون من يتأملون رحلةَ العذابِ الطويلةَ تلك، وبَذْل النفس. لكن فنانا هولنديا راقيا مفرطَ الحسِّ اسمه «فان جوخ»، لا شك أحدُ هؤلاء القِلّة. وإلا ما تفسير عشرات اللوحات الفاتنة التى حملت عناوينَ مثل: القرويُّ يحفرُ الأرض. زوجةُ القروىّ تدسُّ جذورَ البطاطس. القروية تحرقُ الأعشابَ الضارة. وفى أخرى تحرثُ الأرض. القرويُّ يصنعُ سلّة. الفلاحون يحصدون القمح. زوجةُ القروى تحزّم عيدان القمح. القرويّةُ تقطّع القشَّ. الحاصدُ بالمنجل (طالع الصفحة الأخيرة من الجريدة)، وفى الأخير: آكلو البطاطس. وحتى لم ينسَ حياتهما الفقيرةَ فى بيتهما الريفيّ البسيط؛ فنجد لوحاتٍ عدّةً مثل: زوجة القروى ترتقُ الجواربَ، تغزلُ قبعّةً من القش، تحيكُ الملابسَ أو تغسلها على النهر، تكنسُ الدار، تهدهد طفلها، تقشّر البطاطس، تتناول وجبتها، تتدفأ أمام النار، تجلس حزينةً على باب كوخها تفكر. واللوحة الفاتنة «الخطوة الأولى»، التى تمسكُ فيها بيدى صغيرها تعلّمُه المشى، وأبوه يقف فى البعيد فاتحا له ذراعيه. كلُّ هذه الفتنة وأكثر رسمها جوخ حين رحل إلى الجنوب الفرنسى ليستقرَ فى مدينة «آرل» الساحرة. خلّدَها بريشته، كما لم تخلدها كتبُ التاريخ الساذجة. رسم لياليها تضيئها النجوم، وفجرَها تباغته شمسٌ خجول. غسقَها يودّع الشمسَ. رسم أنهارَها وجسورَها وأعشاشَ طيورها. حدائقَها الساحرة بمروجِها ومراعيها. قمحَها وزهورَها وعشبَها وصفصافاتها وكستناءاتها الحمراء وصنوبراتها وسنديانها التى تكاد تصرخُ طربا، وترقصُ رافلةً فى ألوانها الزاعقة الكثيفة، القاتمة جدا حينا، والمشرقة جدا حينا. ألوانٌ استحضرها جوخ بضرباتِ فرشاته الواثقة، الثقيلة الرهيفة، فى آن. ألوانٌ جلبها، لا عبر عينيه اللتين تريان، بل عبر إحساسه الداخلى الذى لا يصوّر أو يصف، بل يشعرُ بالشىء، ثم يعيد خلقه. ما الذى جعلنى أقلّبُ فى مكتبتى لأستخرجَ كتالوجَ حبيبى القديم فان جوخ الذى يكسوه الغبار؟ مشاركتى فى معرض «الكتّاب يرسمون لصالح ضحايا الدويقة» فى جاليرى مجلة بورتريه. كنتُ نسيتُ أن فى الفرشاةِ واللون متعةً وملاذا، لا يقلًُّ حُنوًّا وأمانا عن الموسيقى، التى أهربُ إليها كلما قستِ الحياة! ابحثوا يا أصدقائى عن لوحاتِ هذا العظيم وتأملوها مليًّا. فمن يشاهدُ لوحاته سيدخل الجنّة. لأنكَ بعد تأملها والإبحار فيها سوف تَشِفُّ مثل ملاكٍ، وتطيرُ مثل عصفور. والعصافيرُ، حتما، ستدخل الجنة. [email protected]