لم يعد خافياً على أحد أن وعود وعهود مخترعى نظرية النظام الرأسمالى العالمى الجديد، باءت فى أغلبها بالفشل العظيم. كانوا قد وعدوا العالم بالوفرة المادية، والسعادة القصوى للغالبية من السكان، مع تحقيق حلم الشعوب فى التمتع بقدر غير محدود من الحرية الشخصية، بعد تحولهم من عبيد وأتباع تحت النظم الإقطاعية والشيوعية، ليصبحوا أخيراً سادة أنفسهم، أصحاب الحق فى تقرير مصائرهم، مع إشراقة شمس النظام الاقتصادى العالمى الجديد! ولكن ها هى الخدعة تتكشف، والوهم يتبدد، بعد أن أثبتت التجربة العملية، أن سعادة الأفراد فى كل مكان فى العالم الحديث، قد اضمحلت بشكل كبير، بعد أن أصبح غالبية الناس على عكس ما كان متوقعاً تعساء على نحو مزرٍ.. يعانون من الوحدة، والقلق، والاكتئاب وزادت ميولهم التدميرية. الخدعة الكبرى تكمن فى ذلك الوعد المُر، الذى وعد فيه مهندسو العولمة الجديدة شعوب العالم الأول، ومن يتبعهم من باقى دول الأرض، بأنهم سوف يقدمون لهم لأول مرة فى التاريخ إمكانيات إشباع دوافع المتعة القصوى، واللذة اللامحدودة لأكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، بعد أن كانت تلك اُلمتع والملذات حكراً على الأقلية البرجوازية فى جميع أنحاء المعمورة! منذ زمن بعيد، نبه العالم النفسى «إريك فروم» (1900-1979) المسمى من قِبَل البعض «المؤرخ والفيلسوف الأخلاقى» إلى ضرورة تغيير نظام القيم الأخلاقية التى خلّفتها الثورة الصناعية، إن أراد الغرب تجنب دمار مادى مخيف. نبه «فروم» منذ أربعينيات القرن الماضى إلى خطورة السياسة الاقتصادية الرأسمالية، التى تروج لفكرة أن السعادة فى الاستهلاك. والقوة فى الامتلاك. والأمان فى تراكم الملكية الفردية. بتلك الدعاية المغشوشة غذى النظام الجديد شهوة «التملك» عند الأفراد، وربط بينها وبين الكينونة، وبينها وبين السعادة والحب والاستقرار والسلام، فى حين أنها فى واقع الأمر تغذى كل النزعات المريضة فى النفس الإنسانية، من أنانية وجشع، إضافة إلى الانعزالية وفقدان الشعور بالآخر مع زيادة الشعور بالحسد والحقد والخصومة الطبقية. كل ذلك يدفع بالمجتمعات الحديثة للدخول فى حروب طبقية وعرقية وإقليمية، السبب وراء انفجار الحروب الدولية. فالحقيقة البسيطة المعروفة منذ فجر الإنسانية أن الجشع والسكينة لا يتعايشان مع بعضهما البعض، وهو ما يفسر لنا ما تعيشه البشرية اليوم من حروب نفسية داخلية، وحروب اجتماعية اقتصادية مسلحة.. ومن السلبيات الأخرى لهذا النظام، أن الإنسان فى هذا الزمان، المفرط فى شهواته وأنانيته، اضطر لتغيير صفاته الطيبة المتأصلة فى تكوينه، نتاجاً للضغوط الاجتماعية والاقتصادية، ليصبح ذئباً فى عالم من الذئاب. استناداً إلى ما فات، أعتبر نفسى واحدة من المستبشرين خيراً مما حدث من جراء الانفجار المالى الأخير. أتعشم خيراً أن يكون المشرعون فى العالم قد استوعبوا الدرس القاسى جيداً، وأن يسنوا سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية القادمة على أسس سليمة، بعد أن بات واضحاً للعيان أنه لا سعادة إلا فى انسجام المادة مع الروح.. ولا أمان إلا فى التكافل الاجتماعى.. ولا حرية إلا فى التحرر من عبودية الشهوات الغريزية. [email protected]