بلور انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية حالة فى العالم يمكن وصفها ب «الأوباميزم»، وهى تلك الحالة الشعبية التى تختزن كل أشواق البشر إلى مخلص فى اللحظات التى تشتد فيها الحاجة إلى التغيير، الحالة التى تصف القوة التى تخرج من رحم الضعف، والنصر الذى يخرج من قلب المستحيل، والتحقق الذى ينبت من دوائر الإهدار، وإرادة الجماعة التى تعلو على إرادة الأفراد، وحلم التغيير الذى يقوده شعب يريد بالفعل أن يغير، ولا يرفع التغيير كمجرد شعار. وتلخص «الأوباميزمية» توجهاتها فى مجموعة من الشعارات الأساسية التى غازلت وجدان المواطن الأمريكى بأعلى درجات الحرفية. بداية من شعار «التغيير الذى نريده» الذى التقى مع إرادة هذا المواطن فى تغيير السياسات النكدة التى خلفتها ظاهرة «البوشيزم»، التى ألحقت بالولاياتالمتحدة العديد من الخسائر السياسية والاقتصادية والعسكرية والبشرية على يد «بوش» الصغير. وانتهاء بشعار «نعم باستطاعتنا»، ذلك الشعار الذى أبهر الكثير من المهمشين، ومن يشعرون بأنهم تحت الأقدام فى مجتمعات عديدة، وليبدأوا فى الحديث عن أن باستطاعتهم أن يستخرجوا القوة من رحم العجز والمهانة.قصة الأوباميزم أيضاً تقدم تلخيصاً للفارق بين التفكير النمطى والتفكير الابتكارى. فكل النمطيين راهنوا على أن الشعب الأمريكى سيخضع لعنصريته ولن يختار أوباما، وأنه سيردد فى النهاية أن نار ماكين «البيضاء» خير من جنة أوباما «السوداء». لكن التجربة أكدت انتصار الفكر الابتكارى الذى يقرب البعيد، ويتحرك إلى الأرض التى لم تطرق بعد، ويجنح إلى تجربة الحلول التى ظلت مستبعدة لقرون بعد يأس العقل من الحلول المتكررة التى تخرج الإنسان من أزمة إلى أزمة. وقد كان هذا الانتصار مصدر ابتهاج للكثير من الشعوب، مثل أبناء القرى التركية الذين ذبحوا الخراف، وأهالى القرى الكينية الذين خرجوا إلى الشوارع يرقصون تعبيراً عن الاقتناع بفكرة الأمل فى إحداث تغيير يعيد إليهم هيبتهم وكرامتهم. فالمسألة تعدت شخص أوباما ذاته إلى الفكرة التى تلخص حلم المستضعفين فى أن يكونوا قادة لمجتمعاتهم. وهو حلم يتساوى فيه جميع المسحوقين فى كل الدنيا، بغض النظر عن اللون أو العرق أو العقيدة أو الوطن. لذلك فقد سارعت الشعوب إلى الاحتفاء بما حدث فى أمريكا، فى حين تباطأت ردود أفعال النخب التى تتحدث عن التغيير ولكنها لا تريده! فالملاحظ أنه حتى اللحظة الأخيرة لإعلان فوز أوباما برئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية كان هناك تردد واضح ما بين أفراد النخبة المثقفة فى مصر والعالم العربى فى الاعتراف بأن الرجل فى طريقه إلى البيت الأبيض، وذلك رغم توالى الاستطلاعات التى تؤكد تفوقه، ورغم الأخبار التى بدأت تتدفق عبر شاشات الإعلام العالمى بعد إغلاق صناديق الاقتراع، وتفيد بتقدم أوباما على ماكين . وقد يفسر هذا التردد بحالة التوجس التى تنتاب البعض من المقالب المتوقعة لنتائج الانتخابات الأمريكية التى تتناقض – أحياناً - مع ما تشير إليه استطلاعات الرأى، لكننى أرى أن هذا التوجس والتردد فى الاعتراف بالإنجاز الذى تحقق فى الولاياتالمتحدةالأمريكية مرده أمر آخر، يتمثل فى وجود رغبة دفينة لدى الكثير من أفراد النخب السياسية والثقافية فى رفض ما يحصل، خصوصاً تلك النخب التى حددت ولاءاتها وانحيازاتها فى صف السلطات الرسمية فى الكثير من دول العالم، فرفضت بصور واعية – أو غير واعية - ظاهرة «الأوباميزم». لقد خرج رئيس الوزراء الإيطالى «سيلفيو بيرلسكونى» معلقاً على فوز «أوباما» بقوله: «إنه شاب وسيم وأسود اللون دائماً». ورغم تأكيد بيرلسكونى بعد ذلك أنه لا يسخر من لون الرجل، وأن المسألة مجرد دعابة، فإن هذا التعليق يعكس حالة رفض داخلى للفكرة التى ارتبطت بفوز «أوباما»، والمتمثلة فى حق المهمشين والمستضعفين فى حكم بلادهم. وأتصور أن الكثير من الرسميين العرب – كما ظهر فى تعليقاتهم الخاملة على ما حدث – كانوا يتمنون فوز «ماكين»، ليس لأنهم يكرهون أن يحكم أوباما الولاياتالمتحدة، ولكن لأنهم يخافون من الإلهام المشع لفكرة «الأوباميزم» التى تجاوزت شخص الرجل لتوقظ حلم الكثير من المهدرين داخل مجتمعات العالم المختلفة فى أن يكونوا فرسان حلبة الحكم. إنه ذلك الإلهام الذى انزعج منه الحكام العرب بعد ظهور عبد الناصر وبلورة فكرة «الناصرية»، وظهور الخومينى فى إيران وصعود فكرة «الخومينية» . ورغم أن العنصرية القائمة على أساس لون البشرة ليست جانباً من حياة الكثير من الشعوب، كما هو الحال بالنسبة للشعب الأمريكى، فإن الكلام عن التفرقة على أساس الوضع الاجتماعى أو الاقتصادى أو العائلى وخلافه لا يخلو من التعابير اللونية. فالمواطن المصرى الذى يعانى من أى نوع من التمييز لا يجد عبارة يصف بها حاله خيراً من عبارة أنه «ابن البطة السودة». وابن البطة السودة – حتى ولو كان ناصع البياض – كثيراً ما يحرم من أن يكون ضابط شرطة أو دبلوماسياً أو عميد كلية أو رئيس جامعة، فما بالك أن يكون رئيس دولة فى منافسة «أبناء الأكرمين»؟! الأوباميزم أثبتت أن ابن البطة السودة – فى أشد المجتمعات تمييزاً على أساس لون البشرة – يمكن أن يصل إلى سدة الحكم. إن الناس – بطبيعتها – تعشق هذا اللون من الأحلام التى يستحيل فيها الضعف إلى قوة، والعجز إلى إرادة، والغياب إلى حضور، والقهر إلى نصر. أليس التغيير هو أنشودة كل الواقفين فى طوابير الضعف والعجز والغياب والقهر من المصريين. هؤلاء الذين سوف يمكثون طويلاً فى حالة وقوف، لأن فكرة «الأوباميزم» لا تعترف بمجرد «الرغبة فى التغيير»، بل تتأسس على «إرادة التغيير». وهذا هو الفارق بين النخب الثقافية والسياسية المعبرة عن شعوبنا التى تتحدث عن التغيير أكثر من أى موضوع آخر، فى الوقت الذى لا تملك فيه الإرادة المطلوبة لإحداث أى تحول فى الواقع، وبين شعوب أخرى. الأوباميزم تعبير عن الإرادة التى عبر عنها المصرى الموجوع «أمل دنقل» فى قصيدة «لا تصالح»، لقد صرخ «أمل» فى وجه المصرى المسحوق قائلاً: «ليس سوى أن تريد.. أنت فارس هذا الزمان الوحيد.. وسواك المسوخ». هل أنت بحاجة إلى شرح معنى كلمة المسوخ، أم ترى نماذجها وأمثلتها تحيط بك من كل اتجاه؟! لقد تغنى أمل وهو يحكى عن الفارس المخلص بأنشودة الإرادة، وظل الرجل حتى لقى وجه ربه يحلم بأن يولد فى هذا الوطن «من يلبس الدرع كاملة.. من يطلب الثأر.. من يستولد الحق من أضلع المستحيل».