كم كنت أود لو انتهز الحزب الحاكم فرصة انعقاد مؤتمره العام هذه الأيام ليعلن رسميا عن مرشحه فى الانتخابات الرئاسية! صحيح أنه ليس مضطرا أو ملزما بذلك من الناحية القانونية، غير أن هناك أمورا أخرى، ربما تكون أهم وأقوى من النواحى القانونية، تستوجب من الحزب الحاكم أخذها فى الاعتبار عند التعامل مع قضايا من هذا النوع، منها ما يدخل تحت بند «الالتزامات الأخلاقية» ومنها ما يدخل تحت بند «المواءمات السياسية». فعلى الصعيد الأخلاقى، يدرك الحزب الحاكم أن هذه القضية بالذات تشغل بال النخب السياسية والفكرية فى مصر، وتستنزف جانبا كبيرا من جهدها وطاقتها وتثير لغطا هائلا من مصلحة الجميع أن يسعوا لتبديده. ولأنه حزب يدعى تمثيلاً لأغلبية كاسحة ويعكس نبض الشارع، فيفترض أن تكون لديه حساسية خاصة تجاه ما يشغل بال الناس أو يثير القيل والقال أو يفتح الباب واسعا أمام جدل لا طائل من ورائه. ومع ذلك يتخذ كبار المسؤولين فى هذا الحزب موقفا متعاليا يصل إلى حد ازدراء كل من يتحدث عن هذه القضية، بدعوى أنها قضية «نخبوية» لا تشغل بال شارع يبدو مهموما بأمور حياته اليومية أكثر من اهتمامه بأى شىء آخر، وهو أمر غير مفهوم وربما غير مقبول أيضا. فإذا سلمنا جدلا بأن الانشغال منذ الآن بمعرفة اسم مرشح الحزب الحاكم قضية «نخبوية» لا تهم الجماهير الغفيرة، فإنه من المسلم به أن النخب السياسية والفكرية فى كل البلاد هى التى تقود الرأى العام وتوجهه، مما يفرض على كل حزب كبير، خصوصا إذا كان يدعى تمثيله الشرعى للأغلبية، عدم تجاهل ما تطرحه من أسئلة وما تثيره من قضايا إلى حد التسفيه أو الازدراء على هذا النحو! أما على صعيد المواءمات السياسية، فمن مصلحة الحزب الحاكم نفسه أن يهتم بكل ما من شأنه تنشيط الحياة السياسية فى مصر. ولا جدال فى أن الإعلان المبكر عن مرشحه للرئاسة يحرج الأحزاب الأخرى التى لها حق التقدم بمرشحين فى هذه الانتخابات ويدفعها إلى اتخاذ خطوة مماثلة، وهو ما من شأنه أن يسهم فى تحريك المياه فى بركة حياة سياسية تكاد من فرط ركودها تتحول فى مصر إلى بركة آسنة، أصيبت مياهها بتلوث قاتل. ولأن عدد الأحزاب التى يحق لها التقدم بمرشحين فى انتخابات الرئاسة القادمة ولديها شخصيات تصلح لشغل هذا المنصب ضئيل جدا ويكاد يقل عن أصابع اليد الواحدة، فضلا عن أن القيود الدستورية والقانونية المفروضة على الترشح لهذا المنصب بلغت حدا يكاد يفرغ الانتخابات الرئيسية من مضمونها، فمن الطبيعى أن يساعد الإعلان المبكر عن مرشح الحزب الوطنى للرئاسة على قطع الطريق أمام الدعوة إلى مقاطعة انتخابات تبدو نتائجها محسومة سلفا ويضفى طابع الجدية عليها، وهو أمر يبدو الحزب الحاكم فى أمس الحاجة إليه. غير أن دلائل كثيرة تشير إلى أن الحزب لا يبدو معنيا بأى من هذه الاعتبارات، وبالتالى فمن الطبيعى أن يثير إصراره على عدم الإعلان عن اسم مرشحه فى الانتخابات الرئاسية القادمة تساؤلات من شأنها أن تسهم فى تغذية اللغط الدائر حول هذه القضية بأكثر مما تساعد على تبديده، وتصيب الحياة السياسية المرتبكة فى مصر أصلا بمزيد من الارتباك والفوضى. وهنا من الطبيعى أن يثار سؤال ذو شقين، الأول: يتعلق بأسباب الغموض المتعمد من جانب الحزب الحاكم، والثانى: يتعلق بأسباب إصرار النخبة على تبديد هذا الغموض!. وبينما تدخل الإجابة عن الشق الأول من السؤال فى نطاق الافتراضات أو التحليلات أو الاستنتاجات، فإن الإجابة عن شقه الثانى تدخل فى نطاق البديهيات! لا تتوافر لدينا معلومات مؤكدة عن الأسباب الحقيقية وراء تعمد استمرار الغموض حول مرشح الحزب الوطنى فى الانتخابات الرئاسية القادمة، غير أنه يسهل أن نستنتج، من واقع قراءتنا الخاصة لسياق الحوادث، ما يلى: 1- أن هناك مشروعا للتوريث لا يريد الحزب الحاكم أن يعترف به رغم إصراره الواضح على تمريره. 2- أن الجدل داخل النخبة القريبة من صنع القرار مازال مستمرا حول التوقيت الملائم لتمريره من ناحية، ولطريقة إخراجه من ناحية أخرى. 3- تعارض الخطط المتعلقة بمشروع التوريث مع خطط الطوارئ المتعلقة بالاختفاء المفاجئ لرئيس الدولة. وفى ضوء هذه الاستنتاجات يمكن فهم الأسباب التى أدت إلى تراجع الرئيس عن تصريحات سابقة تفيد بأنه سيظل فى موقعه «حتى آخر نبض فى عروقه»، فسرت فى حينه بأنها تعنى أن الرئيس هو مرشح الحزب الوطنى فى انتخابات 2011. ولأنه كان بإمكان الرئيس حسم كل اللغط الدائر حول مشروع التوريث بتصريح واحد من ثلاث كلمات يقول بأنه «قرر ترشيح نفسه» فى انتخابات الرئاسة القادمة، فإن إحجامه يكرس الغموض ويجعل الباب مفتوحا على مصراعيه أمام كل الاحتمالات! أما فيما يتعلق بالشق الثانى من السؤال فالإجابة عنه تبدو سهلة وربما بديهية، فالغالبية الساحقة من الشعب المصرى تدرك أن مرشح الحزب الوطنى هو الرئيس القادم لا محالة، خصوصا إذا استمر العمل بنصوص الدستور دون تعديل، كما تبدو مقتنعة بأن مبارك الأب أو مبارك الابن مرشحان وحيدان لشغل هذا المنصب، وكلاهما يصيب الرأى العام بالقلق على مستقبل مصر.. فاستمرار الرئيس الأب فى الحكم حتى نهاية الولاية السادسة عام 2017 يضعف سلطة القيادة وبالتالى هيبة النظام ككل لأنه سيكون حينئذ على مشارف التسعينيات من عمره. وخلافة ابن فى منتصف الأربعينيات لأبيه يسد طريق التحول الديمقراطى فى مصر ويكرس الاستبداد لأربعين سنة قادمة! فى سياق كهذا، يمكن فهم دلالات الضجة الهائلة التى أثارتها تصريحات كل من حسنين هيكل لصحيفة «المصرى اليوم»، من ناحية، وعمرو موسى لصحيفة «الشروق»، من ناحية أخرى. وقد ركزت ردود الأفعال على تصريحات هيكل، للأسف، على أسماء المرشحين لعضوية «مجلس أمناء الدولة والدستور» بأكثر مما ركزت على فكرته المحورية حول ضرورة «المرحلة الانتقالية»، غير أن حرص الأستاذ، الزائد على الحد فى واقع الأمر، على تطمين الرئيس مبارك الأب لم يمنع أنصار مبارك الابن من شن حملة بذيئة عليه بعد أن فطنوا إلى أن اقتراحه، وبصرف النظر عن أى تفاصيل، يقطع الطريق كليا على مشروع التوريث. ولأنه يصعب فى الوقت نفسه تصور أن يصبح عمرو موسى مرشحا رئاسيا منافسا للرئيس مبارك الأب، فقد فهمت تصريحاته، التى أبدى فيها تفهمه لمغزى ترشيح الجماهير له، على أنها تنطوى على رفض ضمنى لمشروع التوريث. بوسع كل متابع للشأن المصرى أن يدرك كم هى عميقة حالة القلق التى تنتاب شعب مصر على مستقبله. وتكفى قراءة سريعة لدلالات ما كتب فى الصحافة وما تناولته البرامج الحوارية المسموعة والمرئية حول ما يتعلق بمشروع التوريث خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهذا التكاثر الرهيب فى عدد الجماعات التى تنشأ كل يوم فى مصر من أجل «التغيير» أو لمناهضة «التوريث» و«التزوير».. إلخ، كى ندرك أن الأغلبية الساحقة للشعب المصرى باتت مقتنعة بأمرين لا ثالث لهما. الأول: أن الانتخابات الرئاسية فى ظل الدستور الحالى مجرد مسرحية هزلية لا تليق بهذا الشعب الكبير، والثانى: أن مرشح الحزب الوطنى للرئاسة سيكون هو رئيس مصر القادم شاء شعبها أم أبى. ومن هنا وصلت هذه الأغلبية إلى قناعة مفادها أن ترشيح الحزب الوطنى لجمال مبارك هو التوريث بعينه. ولأن شعب مصر يرفض كل أشكال توريث السلطة فمن الطبيعى أن يرفض ترشيح جمال لمنصب الرئاسة. لذا لا أستبعد أن تخرج فى مصر جماعات أو تشكيلات جديدة تسمى نفسها «ضد الترشيح»، بعد أن تاهت الحدود فى النظام السياسى المصرى بين «الترشيح» و«التوريث». فهل وصلت المهانة بنا إلى هذا الحد؟ سؤال بات يتردد، صراحة أو ضمنا، على كل الشفاة فى كل المنتديات الممتدة باتساع مصر المحروسة من أقصاها إلى أقصاها. ولأننى على قناعة تامة بأن شعب مصر يرفض أن يهان إلى هذا الحد، أتوقع أن تشهد الساحة السياسية المصرية حراكا ساخنا طوال العامين القادمين، ولا أستبعد أن يشهدا مفاجآت مذهلة قد لا تخطر على بال أحد!