منذ هاجم رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوجان الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز، فى مؤتمر دافوس، فى شهر يناير الماضى، محتجاً على الاستخدام الإسرائيلى المفرط للقوة فى الحرب الأخيرة على غزة، تحظى أنقرة بتقدير وإعجاب يتزايدان فى الأوساط العربية والإسلامية، إلى الحد الذى دفع بعض غلاة المؤيدين للدور التركى إلى المناداة ب«عودة الخلافة العثمانية». والواقع أن الخلافة العثمانية أبداً لن تعود، والدور التركى القائد والمهيمن فى هذا الجزء من العالم بات جزءاً من الماضى لن يمكن استعادته على النحو الذى كان عليه على الإطلاق، لكن هذا لا يمنع القول بأن أنقرة اليوم أكثر حلماً وطموحاً إلى دور رئيس فى منطقة الشرق الأوسط وأكثر قدرة على إطلاق هذا الدور وصيانته ودفع تكاليفه. حينما عاد أردوجان إلى بلاده قادماً من دافوس مطلع هذا العام، تم استقباله استقبال الفاتحين، فى دلالة على التأييد الشعبى للمنحى الذى اتخذه تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، وفى الوقت نفسه، لم تبد أى من القوى السياسية الفاعلة فى الحكم التركى ما يفيد اعتراضها على هذا المنحى، رغم ما يبدو عليه من تعارض مع العلاقات الوثيقة التى ربطت أنقرة بالدولة العبرية. على مدى عقود عدة ظلت تركيا أوثق حليف لإسرائيل فى العالم الإسلامى، فقد كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل فى عام 1949. وترتبط الدولتان باتفاق للتعاون العسكرى والأمنى والاستراتيجى منذ عام 1996، ينص على السماح للطائرات العسكرية الإسرائيلية بالتدريب فى المطارات والأجواء التركية، وإجراء المناورات المشتركة، وبرامج للتصنيع الحربى، وتعاون فى مجال صيانة الطائرات المقاتلة وتصنيع أجزاء منها. وقد بلغ حجم التبادل التجارى بين البلدين 3.4 مليار دولار فى العام الماضى 2008، وهو الرقم الذى جعل تركيا تحتل المرتبة الثامنة على لائحة الدول الأكثر تبادلاً تجارياً مع الدولة العبرية، الأمر الذى تعزز باتفاق للتجارة الحرة يهدف إلى توسيع تلك المبادلات، ويزور أكثر من نصف المليون سائح إسرائيلى تركيا سنوياً، لتكون دولة الخلافة العثمانية بذلك الوجهة السياحية الأولى لمواطنى إسرائيل. لكن الأمور بدأت تتخذ مساراً مغايراً، فما إن حل الربيع الماضى حتى أجرت تركيا أول مناورات عسكرية برية مشتركة من نوعها مع سوريا، تلك الدولة التى كانت أنقرة على وشك شن الحرب عليها إبان أزمة التمرد الكردى فى عام 1998، والتى يجمعها بها ميراث من الشك والخلافات الحدودية والمائية والسياسية. وشهد هذا الشهر انعقاد الاجتماع الأول ل«مجلس التعاون الاستراتيجى» السوري- التركى، حيث ألغيت تأشيرات الدخول بين البلدين، وتعهد نحو 20 وزيراً من الجانبين بتوسيع التعاون فى شتى المجالات. لكن الحدث الأبرز والأكثر دلالة فى هذا الصدد يتصل بتعليق تركيا مشاركة إسرائيل فى المناورات الجوية المتعددة الجنسيات (نسر الأناضول) التى كانت مقررة هذا الشهر، وهو الأمر الذى أدى إلى استياء الولاياتالمتحدة وبعض دول «الناتو» المشاركة فى المناورات، ومن ثم تم تأجيلها. لم تتوقف تركيا كثيراً أمام الاستياء الأمريكى والاعتراض الإسرائيلى على قرارها إزاء مناورات «نسر الأناضول»، بل ذهبت سريعاً إلى الإعلان عن إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع سوريا «أكثر شمولاً وأكبر حجماً» قريباً. كنت أحد الذين ارتابوا كثيراً فى إقدام أردوجان على مهاجمة بيريز فى دافوس مطلع هذا العام، بل دعوت إلى التقليل من التعويل على مثل تلك المواقف، خاصة أن تركيا كانت لا تزال تحتفظ بجميع روابطها الاستراتيجية بحليفها الإسرائيلى الوثيق. لكن الواقع أثبت أن أنقرة فى ظل حكم حزب العدالة والتنمية طورت استراتيجية بديلة لما دأبت عليه خلال عقد ونيف، وهى الاستراتيجية التى تقوم على تقليل الارتباط الاستراتيجى بإسرائيل تدريجياً فى مقابل تدعيم الروابط مع العالم العربى والإسلامى، من دون إثارة مشكلات كبيرة مع أى من دول الجوار، تحت عنوان «صفر من المشاكل». وثمة ما يؤكد التوجه التركى فى هذا الصدد، خصوصاً على صعيد العلاقات مع إيران وبقية الدول العربية ومحاولتها لعقد وساطة غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل كادت أن تحقق تقدماً ملموساً لولا العدوان الإسرائيلى على غزة. إن إقدام الحكومة التركية على إصدار أول مجلة باللغة العربية (حراء) منذ قيام الجمهورية، وإذاعة قناتها الرسمية (تى آر تى) مسلسل «الوداع»، الذى يظهر قتل الجنود الإسرائيليين للأطفال الفلسطينيين، والاعتراض الإسرائيلى عليه، كلها إشارات توضح أن تركيا عازمة فعلاً على «بناء مستقبل جديد» مع جوارها العربى، حتى وإن تناقض مع علاقاتها الاستراتيجية بإسرائيل. أما إعلان الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون التركية عن إطلاق قناة فضائية ناطقة باللغة العربية، كقناة عامة تمثل «قهوة تركية لكل بيت عربى»، على حد قول منسق عام القناة سفر توران، فليس سوى إعلان واضح عن استراتيجية تركية واضحة ودؤوبة لكسب عقول العرب وقلوبهم. والسؤال الذى يجب أن يطرحه الجانب العربى اليوم يتعلق بمدى القدرة على مساعدة تركيا على تفعيل استراتيجيتها تلك وأداء الدور الذى ترغب فى القيام به من جهة، ومدى القدرة على تجيير هذا الدور لمصلحة القضايا العربية من جهة أخرى.