فى الشارع الكبير فى مدينتنا الصغيرة انطلقنا صغارا فرحين مساء يوم السادس من أكتوبر 1973 نردد الشعارات الطفولية المتوعدة بالعدو الصهيونى بالحرق بالبنزين والجاز ونغنى للنصر والعبور ونجوب الشارع والحوارى الصغيرة المحيطة به خلف رجال الدفاع الشعبى للتنبيه على الأهالى بإطفاء الأنوار وإخفائها باللون الأزرق. كنا نردد وبصوت عال «طفى النور يا بهية احنا عساكر دورية» ولا أدرى حتى الآن من أين جئنا بهذه الأغنية ومن هى بهية التى كان عليها واجب إطفاء الأنوار، تلبية لعساكر الدورية وصيحات صفارات الإنذار فى أيام المعركة. من بين الصغار كان جورج وسامى وميخائيل وغيرهم جنبا إلى جنب معنا نسير فى صفوف التنديد بالعدو نهارا وتنبيه أهالى شارع الدلتا فى مدينة، دسوق إحدى مدن الدلتا، بشعار «بهية والنور» ليلا. بعد أيام معدودات من انتهاء الحرب عاد من أبناء المدينة الذين شاركوا فى الحرب من عاد، واستشهد من كُتِبَتْ عليه الشهادة فى سبيل الله والوطن والمجد والشرف، وفى صباح من الصباحات الجميلة التى مرت على الوطن بعد ذلك بقليل كانت لوحة بارزة مثبتة على أول الشارع تحمل اسمه الجديد «شارع الشهيد وديع بسخرون» أحد أبناء الشارع الذين شاركوا فى معركة الفداء ونال الشهادة. وقتها أوجزت ولخصت لوحة «الشهيد وديع» المشهد الرائع لحالة وطن هب كل أبنائه من الأقباط المسلمين والمسيحيين لنصرته والأخذ بثأره ونفض غبار الهزيمة عنه فتشابكت الأيدى واختلطت الدماء. بعد سنوات اختفت اللوحة ولم أجد لها أثراً على ناصية الشارع. مرة أخرى وفى عام ثمانينى وفى ذكرى الاحتفال بأكتوبر المجيد كنت أقوم بعمل تحقيق صحفى فى جمعية «المحاربين القدامى» بالعجوزة من خلال شهادات لعدد من أبطال المعركة وذكرياتهم وأحوالهم بعد أكتوبر، كان أكثر المشاهد تأثيراً فى الحضور دخول أحد الأبطال واسمه، على ما أذكر، المقدم أحمد أو محمد عوض يدفع أمامه أحد مصابى أكتوبر يجلس على كرسى متحرك، صمت الجميع والبعض حاول أن يغالب دموعه ولم ينجح. راح من كان يدفع الكرسى المتحرك يحكى ذكريات المعركة وكيف أن الضابط «اسحاق» الجالس على الكرسى، فى أحد أيام الحرب التالية بعد يوم السادس وأثناء احتدام القتال اندفع مسرعا أمامه فجأة ليستقبل شظية من جراء قصف للعدو كادت تودى بحياته وكانت النتيجة أن فقد قدميه ومن يومها لا يفارقه عوضه فى كل تحركاته وأصبح هو قدم إسحاق التى يمشى بها، كان المعنى واضحا وجليا والحقيقة الأكيدة لم تكن فى حاجة إلى بلاغة للتعبير عنها، بعدها سألنى المقدم عوض دامعاً «هوه يعنى إيه فتنة طائفية يا أستاذ؟!»، لم أستطع أن أجيب، وتذكرت لوحة الشرف لأسماء قادة المعركة، التى ضمت أسماء قادة وأبطال، منهم العميد فؤاد عزيز غالى، قائد الفرقة 18 مشاة، والعقيد شفيق مترى سدراك، قائد اللواء الثالث مشاة آلية، والعقيد جورج حبيب، قائد اللواء 24 مدرع. كان هذا هو المشهد الرائع فى لحظات الانتصار العظيم وكان هذا هو الوطن عفياً قوياً بأبنائه محصنا ضد أمراضه وقروحه وفتنه الملفقة لعلنا لا ننسى ونتذكر على الدوام كيف كان وعلى ماذا أصبح الآن. تحية للأبطال فى ذكرى نصرهم، وسلام سلاح لشهداء مصر الأبرار مسلمين ومسيحيين.