إن خطورة كثير من الحوادث التى تشهدها مصر وتنتهك بشكل صارخ القانون وتعتدى على حقوق المواطنين، لا تكمن فقط فى حدوثها إنما فى التعامل معها بطريقة شديدة التبلد. والمؤكد أن حجم التدهور الذى أصاب مؤسسات الدولة كبير، وأن غياب أى قواعد للمحاسبة أو الصعود الاجتماعى أو المهنى أصبح هو النمط المعتمد فى إدارة شؤون هذا البلد، وصار تَقَبُّل كوارث قادرة على قلب أوضاع ليس فقط بلداً ديمقراطياً محترماً، إنما بلد مثل مصر فى أى مرحلة أخرى من تاريخه، أمراً عادياً فى الألفية الثالثة. ولعل كثيراً منا تابع حادثة اغتيال اللواء إبراهيم عبدالمعبود فى كمين نصبته له مجموعة من الخطرين وتجار المخدرات، وسقط الرجل ضحية الغدر والخيانة، وتحركت أجهزة الأمن بسرعة فائقة لأن الضحية كان أحد رجالها ونجحت فى قتل الشخص المتهم باغتياله فى مشهد فيه من الثأر أكثر ما فيه من اعتقال مجرم خارج عن العدالة، خاصة بعد أن أشارت تقارير الطب الشرعى إلى أن المتهم الأول باغتيال لواء الداخلية لم يطلق النار على القوة المهاجمة. إذا أضفنا إلى ما سبق أن هناك بعض التقارير الصحفية أوردت أن بعض أفراد جهاز الأمن فى السويس تواطأوا مع القتلة، وأن هذا ساعد على اغتيال المتهم حتى تختفى معه تفاصيل كثيرة غير مطلوب أن يعرفها الرأى العام، يصبح القلق مضاعفاً. والمؤكد أن شخصاً «مسجل خطر» وتاجر مخدرات لا يثير تعاطف أحد، على عكس شهيد الواجب إبراهيم عبدالمعبود الذى سقط نتيجة تأدية عمله بكفاءة ونزاهة، وبالتالى فإن رفض الطريقة التى صُفى بها المتهم بقتله لا يرجع لكونه شخصاً على خلق، حسن السير والسلوك فنال تعاطف الناس، إنما لقيمة عليا غُيِّبت عن مصر وهى «دولة القانون» التى لا تثأر ولا تنتقم، وقادرة على أن تضبط مشاعرها لأن لها رسالة ودوراً نحو المجتمع، وبالتالى لا يجب أن تتسم تصرفاتها بالعشوائية وتترك كل جماعة أو مؤسسة داخلها تطبق قانونها الخاص، لأن هذا بداية التفكك وفقدان ثقة المواطنين فيها. المؤكد أن أخطاء الشرطة كثيرة ولكنها زادت فى الفترة الأخيرة ليس لأن الشرطة من طينة أخرى غير طينة باقى الشعب المصرى، لكن لأنها مثل أى جهاز لديه سلطة واسعة ولا توجد رقابة حقيقية على أدائه، ولا نظام محكم لردع المخطئين بداخله، فطبيعى أن تزداد تجاوزاته حتى أصبحت ظاهرة وليس مجرد حالات فردية. هل يتصور أحد أن حوادث التعذيب والاغتصاب التى حدثت تجاه مواطنين ليست لهم علاقة بالسياسة، وأغلبها كانت نتيجة «خناقات شارع» كحادثة عماد الكبير الشهيرة، ترجع إلى وجود قرار سياسى من وزير الداخلية أو من الحكومة بارتكاب هذه الجرائم؟ الإجابة بالقطع لا، وهنا مكمن الخطورة لأن الخلل أصبح يتعلق بمشكلة أداء عام وليس مجرد خطأ مسؤول. صحيح أن «التعذيب السياسى» يتكرر بحق المعارضين، خاصة من أعضاء جماعات العنف الدينى، لكن المواطن العادى «الماشى على باب الله» كان ضحية تعذيب راجع لغياب أى نظام للمحاسبة (الضابط الذى انتهك عرض السائق عماد الكبير عاد إلى عمله كضابط شرطة بعد تنفيذه مدة الحكم). والمؤسف أن كل «كليبات» التعذيب الشهيرة، لم تحاول الداخلية أن تعتذر لضحاياها أو تقول للناس «كلمة طيبة»، طالما لم تحقق جدياً فيها، إنما كان كل جهدها منصباً على منع تكرارها أو تهديد من نشروها بعقاب وخيم. والمؤكد أن «التعذيب السياسى» معلم من معالم مصر الحديثة امتد معنا منذ ثورة 1919 حتى 2009، صحيح أنه اختلف من عهد إلى آخر، فزاد فى عهد الزعيم جمال عبدالناصر والرئيس مبارك، وقل فى العهد الملكى وعصر الرئيس السادات، أما «التعذيب المجانى» فهو اجتهاد العصر الحالى بامتياز. أما الأمر الثانى الصادم، فجاء فى المنطق الذى حكم تحرك رؤساء 17 نادياً من أندية القضاة حين جاءوا وقابلوا رئيس مجلس القضاء الأعلى وأبدوا احتجاجاً على بعض التصريحات التى أدلى بها واحد من أكفأ وأنزه رجال القضاء المصرى وأكثرهم بساطة، وهو المستشار محمود الخضيرى، وأشار فيها إلى تجاوزات تحدث داخل السلطة القضائية يتحدث عنها الناس همساً أو صراخا ولكن خارج الإعلام، وبدلاً من مناقشة هذه التجاوزات بصورة شفافة، عاد وتكرر الحديث نفسه عن قدسية القضاء وعدم التعليق على أحكامه (وهو اختراع مصرى لأنه لا يوجد بلد ديمقراطى أو محترم فى العالم لا تناقش فيه أحكام القضاء ولا مشكلات السلطة القضائية). واللافت أن هذا الموقف جاء من حراس العدالة ومن الجهة الأكثر تقديراً واحتراماً لدى الرأى العام وهى القضاء، ونسوا أنه بفضل القضاة الإصلاحيين الذين تحدثوا عن تجاوزات وعمليات تزوير ارتكبتها السلطة التنفيذية فى انتخابات 2005 التشريعية، وتواطأت معها قلة نادرة من القضاة، تغيرت صورة القضاء أمام الرأى العام، وجعلتهم غير مسؤولين عن التزوير الذى حدث فى هذه الانتخابات. وسواء اختلف رؤساء أندية القضاة مع المستشار الخضيرى أم لا فإن هناك مشكلات أهم من تصريح هنا أو هناك، لأن الإساءة لسمعة القضاء أو أى مؤسسة تأثرا بهذا التعبير السمج «الإساءة لسمعة مصر» لا تعود لتصريح أو كلمة تنشرها صحيفة، إنما بأداء هذه المؤسسة أو هذا البلد أو تلك الحكومة، وقدرتها على اكتساب ثقة واحترام الناس. إن غياب دولة القانون بات عنوان أزمة مصر الحقيقية، لأن وجود تلك الدولة شرط الديمقراطية، والكارثة هى أننا لا نتكلم عن موقف الأمن أو القضاء من المعارضين السياسيين فقد اختارت الحكومة محاصرتهم بإحالتهم لمحاكم عسكرية، ولكننا نتحدث عن أداء القضاء بالمعنى المهنى والوظيفى وليس بالمعنى السياسى، ونتحدث عن أداء الشرطة فى الشوارع والأقسام ومع المواطنين، وليس مطاردتها للمعارضين والنشطاء السياسيين. حين نكابر فى مواجهة الأخطاء ونتعمد أو نعجز عن محاسبة مخطئ أو فاسد أو مجرم، ونحاول أن نقمع أو نُخرس كل من يتكلم عن سوء أداء ومشكلات مهنة نكون أمام بدايات كارثة لأن المعضلة تصبح أعمق بكثير من ثنائية الحكومة والمعارضة لتصل إلى أزمة دولة محدودة الكفاءة معدومة الخيال، فى طريقها إلى أن تحول مؤسسات الشعب المصرى إلى ركام. وتعليق: جاءتنى هذه الرسالة من الأستاذ حسام خلف، القيادى فى حزب الوسط، ونظراً لضيق المساحة لم يتح نشرها فى مقال الأسبوع الماضى «صدى التدين المغشوش» وجاء فيها: «فى إحدى صلوات التهجد كان الواقف إلى جانبى معرفة، وانخرط فى بكاء بالرغم من قناعتى بأن الآيات المقروءة فى اللحظة لا تستدعى البكاء لأنها عن عذاب الكفار ولا أعتقد أننا منهم، المهم بعد انتهاء الصلاة ووقوفه معنا فترة كبيرة وعند ذهابه إلى سيارته وجدته أوقفها خلف أخرى (وشد الفرامل) واضطر صاحب هذه السيارة إلى الانتظار أكثر من 45 دقيقة. قلت له: أنا على يقين من أنه لا فائدة من صلاتك أو بكائك وتصرفك خارج المسجد هكذا. هذا للأسف الإسلام الشكلى الذى كرهته فى هذا المجتمع». [email protected]