كنت لاأزال مذيعا صغيرا بإذاعة الشرق الأوسط فى نهاية الثمانينيات عندما قمت بإعداد وتقديم عدة حلقات من برنامج قصير بعنوان «أكتوبر... طبعة جديدة». كان البرنامج يتضمن حوارات مع مؤلفى كتب صدرت عن حرب أكتوبر لمناقشة ما طرح فيها، ثم أسأل الضيف: ماذا لو صدرت طبعة جديدة من الكتاب، ما هو الفصل أو المعلومات التى تضيفها إليه عن الحرب؟ كان أحد ضيوفى المراسل الحربى والمؤرخ العسكرى عبده مباشر، الذى قدم إجابة مثيرة، بأنه سيضيف فصلا عن العلاقة بين وزير الدفاع أثناء الحرب أحمد إسماعيل على، والفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الذى أقاله الرئيس السادات أثناء الحرب، بسبب الخلاف حول أسلوب التعامل مع الثغرة. وتحدث عبده مباشر عن تاريخ العلاقة السيئة بين إسماعيل على والشاذلى وكيف انعكس ذلك على الصدام الذى وقع بينهما أثناء الثغرة. كانت الإجابة مثيرة لبرنامج إذاعى، لكنى كنت أعلم وأفهم القواعد التى تحكم عملنا، وأدركت أن إذاعة ذلك الكلام قد تثير مشاكل، خاصة أثناء احتفالات نصر أكتوبر. ورغم تحفظى على تلك القواعد الصارمة التى كنت أراها مبالغا فيها، فإننى من أنصار نظرية سقراط بأن على الإنسان أن يحاول تغيير ما يراه من قواعد خاطئة، إلا أن عليه أن يتبعها إلى أن ينجح فى تغييرها. ومن هنا عدت إلى رئيسة المحطة التى أدركت حساسية الأمر فطلبت منى أن أسأل رئيس الإذاعة الذى رفض بدوره، وبشكل حاسم، تناول هذا الموضوع الذى رآه غير مناسب أثناء احتفالاتنا بنصر أكتوبر. إننى أتذكر تلك الواقعة كل عام مع احتفالات أكتوبر، وفى كل مرة أسأل نفسى: وما الوقت المناسب إذن لطرح ومناقشة تلك الأمور بصراحة ودون حساسيات؟.. إننا نتصور أحيانا أن بحث هذه القضايا يمس حجم الإنجاز العظيم لتلك الحرب، ونتعامل مع قادة أكتوبر على طريقة مسلسلات القصص الذاتية التى تقدم أصحابها كالملائكة المعصومين، فى حين أنهم بشر لهم نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم. والعظمة الحقيقية هى فى تحدى الإنسان لظروفه الخارجية أو مخاوفه وضعفه الداخلى. كما أن إثارة هذه القضايا الحقيقية أفضل كثيرا من ترديد العبارات الإنشائية المكررة عن النصر العظيم، ومعها فيلم فقير فى الأداء والإنتاج، و«مصر اليوم فى عيد»، مع حبى الشديد لهذه الأغنية. لكننا نختار الطريق السهل الذى وصفه لى يوما الكاتب العظيم يوسف إدريس ب«الطبل والزمر وهز الأرداف» فى الاحتفال بكل المناسبات، وهو ما يبتذل أحد أعظم إنجازاتنا التاريخية. والأهم هو أن تخوفنا الشديد من التعامل مع قضايا أكتوبر بانفتاح أكبر ينتهى بنا إلى الحديث المجتر إلى الذات بما يؤثر سلبا فى قدرتنا على نقل رسالتنا إلى العالم. فقد فوجئت مثلا بعد انتقالى للولايات المتحدة عام 1991 بأن النظرة العامة لحرب أكتوبر فى وسائل الإعلام وبعض الدراسات لا ترى فيما تحقق نصرا لمصر، وتركز على قضية الثغرة وأن القوات المصرية لم تتمكن من الحفاظ على ما حققته من مكاسب فى بداية الحرب. وكانت بداية صدمتى مع هذه الرؤية المعاكسة لما اعتدنا عليه، فى كتاب صدر فى بداية الثمانينيات عن مناظرة مهمة بين الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز والدكتور بطرس غالى الذى كان وقتها وزيرا للشؤون الخارجية، حيث تحدث بيريز باستعلاء عن أن القوات الإسرائيلية توقفت على مسافة مائة كيلو متر فقط من القاهرة ، وما أدهشنى أكثر هو أن بطرس غالى لم يرد على ذلك فيما هو منشور. فكيف نرد على ما أصبح مسلمات فى الأدبيات العالمية بشأن تلك الحرب إذا كنا نكتفى بالحديث إلى أنفسنا دون اختبار لما نقوله ونردده ومناقشة ذلك علنا وبكل اللغات. وهذا ليس بدعة أو مساسا بذلك الإنجاز العظيم، فإسرائيل، على سبيل المثال، صدرت بها كتب ومقالات عديدة تتناول إيجابيات وسلبيات حروبها مع العرب، دون أن يتهم كاتبوها بالخيانة أو أنهم يقتربون من أسرار عسكرية تمس الأمن القومى للبلاد، بل على العكس فإنهم بذلك يقدمون خدمة جليلة لبلادهم. فلو كنا قيمنا أداءنا العسكرى فى حرب عام 1956 بشكل موضوعى بدلا من الاكتفاء بالغناء «لعيد النصر»، لربما ساعد ذلك على إنقاذنا من كارثة عام 67. فقد كانت الحرب الأولى «بروفة» لما كررته إسرائيل فى الحرب الثانية. إننى أعتقد عن قناعة بأن ما حدث فى أكتوبر كان معجزة بشرية حقيقية يفخر بها كل مصرى. أقول ذلك بعد دراسة متأنية لأداء قواتنا الرائع فى الحرب وليس ترديدا لشعارات. لكن أكبر إساءة لتلك الملحة هى أننا مازلنا بعد ستة وثلاثين عاما لا نجرؤ على الاقتراب العلمى والإعلامى من تفاصيلها، ونكتفى، كما قال يوسف إدريس، «بالطبل والزمر.