محظوظ من لا أطفال له فى سن التعليم، أى من لا ينتظر مريضاً محتملاً بأنفلونزا الخنازير فى بيته بعد ساعات قليلة وطويلة من الغياب المنذر بالخطر. لكن شيئاً من البؤس لا يضيع فى هذا البلد. ومن لم يروعه دخول المدارس السبت الماضى ويصبه بالأذى الشخصى، فقد رآه فى كمامة أو صابون كذب، تم استعراضه أمام الشاشات أو على الصفحات الأولى من الصحف. فجأة أصبحت الحمامات لا الفصول، والصبّانات لا السبورات والكتب، مركز الاهتمام فى العملية التعليمية، أعنى فى العملية التمثيلية. وأصبحت الأنفلونزا نعمة حولت خفقان العلم فى أفنية المدارس إلى ارتعاشة خوف، وأضفت الحيوية على الصورة التقليدية لوزير التعليم فى فصل انتظمت فيه الدراسة، وقد جعلتها الكمامات البيضاء على أفواه وأنوف المدرس والتلاميذ أكثر إثارة. نعرف أن التكميم هو قمة النجاح الذى يمكن أن تبلغه منظومة للقمع. أن يسمع الشعب ويرى، دون أن يتكلم، لكن كمامات المدارس لها علاقة بمنظومة الخوف، الذى يبدو أن وزارة التعليم تريد أن تبرز فيه، بعد الإخفاق الشنيع فى منظومة المعرفة. الخوف فى الصغر كالنقش على الحجر، وكنت أتمنى على الزملاء الذين قدموا لنا تغطيات بدء الدراسة لو أنهم قدموا لنا تقريراً يشبع فضولنا حول أصل هذه الكمامات وفصلها. هل هى عهدة إدارية سيعاد تسليمها لمدرسة أخرى عندما يقرر الوزير زيارتها، ومن أين جاء الاعتماد، من الوزارة أم المديرية التعليمية أم من المحافظة أم من المدرسة؟ نحن مجتمع قدرى، يقدم المشيئة فى أخطر الأمور. وكنا نتمنى أن يكون هناك فصل أو مدرسة تخلص أو تخلصت من ذلك التواكل ولجأت إلى العلم والأخذ بالأسباب، لكن العته لم يصل بنا إلى حد تصور أن مدرساً جاءه هاتف فى المنام كى يشترى كمامة، وأن الهاتف جاء فى الليلة ذاتها لكل تلاميذه أو لأولياء أمورهم، وأنهم جميعاً وجدوا الفلوس والكمامات متوفرة، فكانت صورة الفصل المكتمل التكميم مصادفة مبهجة. ولو فرضنا جدلاً أن هذا حدث فى فصل أو مدرسة، فإنه لا يبعث على الفرح، وإنما على الخوف على بقية فصول ومدارس الجمهورية، التى لا يمكن أن تكون هناك كمامات كافية لتكميمها جميعاً، وبالطبع لا أموال كافية لتحقيق هذا التكميم النبيل! الخوف من المدارس ليس جديداً علينا، منذ استحكمت منظومة الكذب فى سياسة المرتبات المفسدة للأرواح، جميع من يعمل بمرتب محدد لدى الحكومة يبحث عن تسعة أعشار دخله فى جيوب الآخرين، هكذا شاعت روح التكاره فى المجتمع، وشاعت روح الكذب، وفى القلب من منظومة الكذب كان الخوف من تكاليف الدروس الخصوصية، بوصفها ضرورة من الضرورات، لأن التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن، وإذا انقطع ماء الحكومة أو تلوث هواؤها فينبغى أن يوفر الناس الماء والهواء لأبنائهم. جميعنا يغش، وتتسلل يده، رغما عنه، إلى جيب أقرب متعامل معه، الطبيب يغش مريضه، سائق الأجرة يغش الراكب، الضابط يغش السائق، الكاتب يغش القارئ، والمعلم يغش الطالب، وهذا هو الأسوأ، لأن إفساد الأرواح الصغيرة يجعلها غير واعية بفسادها وغير قابلة للإصلاح. المهمة أنجزت بنجاح، وأصبح الرعب من العام الدراسى مزدوجاً، مرة بكلفته المادية التى قضت على كل مظاهر الحياة الاجتماعية، ومرة بأنفلونزا الخنازير (خوفاً وتكلفة) وقد بات واضحاً أن وزارتى التعليم والتعليم العالى ماضيتان فى الاستئثار برعب الأنفلونزا دون الوزارات ومرافق الدولة الأخرى! هذا ليس تجنياً، فصورة الفصل المكمم، تؤكد أن منظومة التعليم طمعت فى حصص الخوف من الوباء، ولابد أن تجعلنا هذه الصورة نتساءل: كيف وصل المعُلم والتلاميذ إلى ذلك الفصل؟ مع الشوفير فى سيارة بابا؟ ممكن، ومن جعل فصلاً كامل التكميم قادر على أن يضع سيارات تحت تصرف كل تلاميذه، لكن النسبة الغالبة من التلاميذ (بأغلبية تشبه نتائج الاستفتاءات والانتخابات) تستخدم المترو والأتوبيس والميكروباص والقطار وحتى عربات البضائع، حيث يتكاثف اللحم وتتضارب الأنوف والأفواه. لا يوجد فصل فى ازدحام أتوبيس أو عربة مترو، ولا يحظى الأتوبيس أو عربة المترو التى تمضى فى نفق، بفرصة أى فصل فى التهوية، ومع ذلك يتكثف الخوف فى المدارس فقط. وليست «منظومة النقل» وحدها المعرضة لانتشار الوباء، هناك فرص عديدة للحشد فى المجتمع بينها قاعات المحاكم وسرادقات العزاء وقاعات الأفراح وصلاة الجمعة، ولا أحد يولى هذه الأماكن اهتماماً، ولو على سبيل التوعية، كما أن معظم مكاتب الحكومة فيها هذا الازدحام، وسمعنا مرة عن تخفيض عدد العاملين عند تحول المرض إلى وباء. ولا نعرف لماذا لا تطبق هذه الخطة من الآن، فقد تكون فرصة لتحسين الأداء الإدارى وتقليل اختناق الشارع، حتى بدون هذا التهديد! الأسوأ من هذا الإهمال للمرض فى القطاعات الأخرى هو المبالغة فى وصف استعدادات المدارس، وكلنا نعرف أنها ليست حقيقية، فلا المدارس قسمت على فترتين ولا الجامعات، ولم يهتم وزيرا التعليم بالمدرسين أو أساتذة الجامعة الذين سيضاعفون جهودهم بقسمة المحاضرات، هل سيضاعفون لهم الملاليم المخزية، فيقللون خزيها، أم أن الميزانيات ذهبت لمناقصات الصبانات؟! لا شىء من هذه التفاصيل الصغيرة يهم، طالما تحقق هدف افتتاح أسوأ عام دراسى، اجتمع فيه الخوف من تكاليفه مع الخوف من مخاطره، وادعاء النجاح فى التعليم مع النجاح فى الوقاية.