فى عصر يوم الثلاثاء 29/9/2009 تحققت للفنان محمد على، الشهير بلقب الفنان التلقائى، أمنيته بالرحيل قبل البهدلة فى استجداء وزارة الثقافة ومن يلوذ بها لإلحاقه بمستشفى يرعاه، بعد أن بلغ من العمر فى شهر مايو الماضى، 79 سنة، وتكالبت عليه الأمراض التى لم يستطع أبداً أن يحددها: هل هى السرطان أم القلب أم القولون أم الأمعاء، وكان يُجملها باختصار: «عندى شريان تاجى ومخ وأعصاب وبنكرياس!». تم توديعه من بيته بدرب المقشات، للصلاة عليه فى المسجد الأثرى المجاور «الصالح طلائع» عند باب زويلة، ظهر الأربعاء 30/9/2009. محمد على: اسمه بالكامل محمد محمد على أحمد، عرفته باسمه المختصر: محمد على «الفنان التلقائى»، كان صائغاً مثل سائر أفراد عائلته، لكنه اختار فى يوم ما من ستينيات القرن الماضى أن يستضيف فى شقته الصغيرة، فى المبنى العتيق العريق، بحوض قدم، الكيان الفنى «إمام - نجم». كانت غرفة نومه صغيرة مقاس سرير واحد لنفر واحد، لكن كان لها باب فأعتقد أنها غرفة، وإن بدت أقرب إلى دولاب فى الحائط، جعل الغرفة الأكبر مرسمه ومقهاه وساحة عرض آخر إبداعات الشيخ الموسيقى المغنى إمام والشاعر نجم، التى خرجت من الكوّة الضيقة لترج شوارع المدينة، البلاد، الوطن. لم يتوقف عن حركته الدائمة الدؤوب يروح ويجىء، لا يفتح فمه بأى كلام، إلا عندما يأتى دوره لينشن على المقام، ويردد خلف «إمام - نجم» غناء النبض الشعبى. ابتسامة ما لا تفارق عينيه، كأنه على وشك الانفجار بتهكم مرير. هذا الانفجار غالباً لا يحدث ويظل تعقيبه على ما يدور حوله مدلولات من الألوان والأشكال من مخزون كلمات مكتوبة فى قلبه، كبح لسانه عن بسطها. لم يعجبنى أبداً توصيفه ب«فنان تلقائى». سميته «فنان النبض الشعبى»، لأنه هو مثل صديقيه كذلك: تجمعوا فى نهاية الستينيات متجاذبين منجذبين متفاهمين بهذا النبض، يستقبلونه ويرسلونه من عمق مواهب فذة تجمعت قدراً، لتحفر فى سجل تاريخ حوش قدم دفقة لا تتكرر ولا تُحاكى من الألحان والكلمات والألوان، وظلوا يطلقون رسائل تلك الدفقة الفنية النابغة حتى بعثرهم الزلزال، فتفرقوا كل خل فى مكان، وإن ظلوا على طريق النبض الواحد. لوحات محمد على تعكس وجوه رجال ونساء وأطفال تحمل التعب والمشقة والقهر بصبر وبشاشة، ولا عجب، فهى وجوه سواد الشعب المصرى المُتْعَبْ المشتغل دأباً فى صبر واحتمال ونكتة تحت طحن الرحى، يتقبل المكسب والخسارة بهدوء واحد، لا يعرف اليأس ولا يفتقد الأمل. لوحاته مُغرقة بالألوان الجياشة المرحة التى تحمل الفرح، والشجن، والحزن متلازمة. منحه الله سبحانه نعمة الرضاء، ونعمة الهداية بعد الزيغ، ونعمة الصفح والتسامح والصبر على مصاعب فقدان الصحة وتقدم العمر، وكنت إذا سألته: بتعمل إيه يا محمد؟ يقول: الحمد لله بشتغل كويّس! رحمة الله رحمة واسعة.