عاشت مصر قبل انتصار أكتوبر 1973 سنوات يعانى شعبها الذل واليأس بعد هزيمة 1967. أشعلت حرب الاستنزاف الأمل قليلا فى نفوس شعبنا المحبط بعد أن وجه شباب مصر من الجنود على الجبهة العديد من الضربات الموجعة والمؤثرة للعدو فى صفوفه الخلفية وهو ما يعنى قدرة الجيش المصرى على اختراق التحصينات التى كان العدو يعتقد أن اختراقها هو المستحيل بعينه. هذه الضربات وما يعرف بحرب الاستنزاف استمرت سنوات وتعد أطول الحروب العربية مع العدو وكانت بمثابة الأمل الذى فتحت طاقاته لكى يعود التفاؤل وتعود الثقة فى قدرة قواتنا المسلحة على ضرب العدو وتحقيق النصر واسترداد الأرض المغتصبة فى سيناء. فى أكتوبر تحقق النصر، وأصبح لاسم أكتوبر أجمل طعم على شفاه المصريين، لقد تحملوا ما لم يتحمله أى شعب فى المنطقة، وعانوا اليأس والذل، وقاموا وقاوموا وعادت إليهم الروح، وحاربوا وانتصروا محققين معجزة لم يتوقعها أحد. انتصروا ليس فقط فى جبهة القتال، ليس فقط على عدو اعتقد البعض لزمان طويل أنه لا يقهر، لكنهم انتصروا على خوفهم، على يأسهم، على ضعفهم، وثبت للجميع فى كل مكان أنه فى الوقت الذى يعتقدون فيه أن مصر ماتت، تقوم مصر من جديد بحياة جديدة وطاقة جديدة تؤكد حقيقة ما يعرفه العالم والتاريخ عنها، إنها أبدية خالدة، تضرب حضارتها بجذورها فى عمق التاريخ، وإذا كان الزمن أفنى حضارات وأزال إمبراطوريات، فإن مصر، الدولة القديمة، الحضارة العريقة، صمدت وعاشت، تقلبت أمامها الحقب وهضمت غزاة ومستعمرين وذابوا داخلها مهما طال زمان وجودهم على أرضها أو ضدها. عادت الروح للمصريين، وعادت معها آمال الراحة والانتعاش الاقتصادى، وفى السبعينيات، بعد الحرب بسنوات قليلة تغير شكل المجتمع، أعلن الرئيس السادات أن أكتوبر آخر الحروب وأعلن الانفتاح الاقتصادى، وتغير شكل المجتمع. كانت حرب أكتوبر سببا فى ارتفاع أسعار البترول مما زاد الدخل العربى، وانطلق المواطنون العرب من دول الخليج للسفر إلى الخارج بغرض السياحة، وكانت مصر أقرب الدول إليهم، فانتعش شارع الهرم وسادت قيم جديدة، وتشبعت مشاهد الأفلام بالراقصات اللاتى تلقى عليهن الأموال بالآلاف كل ليلة. وعرفنا المهربين والهليبة والمستوردين الذين يجلبون للمصريين اللحوم الفاسدة، دخل المصريون الشرفاء فى حرب جديدة، ليست ضد عدو خارجى يحتل أرضنا، لكن ضد عدو منا، من داخلنا، وفى هذه الحالة، هو أخطر من العدو الخارجى الذى هزمناه فى أكتوبر. الحالة المجتمعية التى عاشتها مصر السبعينيات أخلت بالمعايير، فقد طفا على السطح الفهلوية و»بتوع التلات ورقات» وتوارى فى الصفوف الخلفية أبطال الحرب الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم ودافعوا عن مصر. اختل التوازن فى المجتمع بناء على المعايير الجديدة، هناك الضباط والجنود الذين حاربوا على الجبهة على مدى سنوات، وعادوا ليبنوا من جديد حياتهم بعد أن تركوا أسرهم وأولادهم بدون رعاية وبدون دخل، عادوا ليبدأوا من الصفر ولكنهم لم يجدوا ما يبدأون به، فى الوقت الذى كانت فيه راقصات شارع الهرم يحاربن حربا شرسة لجمع أكبر قدر من النقوط والتى بنوا بها بعد ذلك مجدهم من العمارات والعزب والشاليهات. اختلت الموازين والمعايير، وعانى أبطال كثيرون من انعدام فرصة الحصول على شقة فى المساكن الشعبية، فى الوقت الذى كانت فيه الراقصات يسكن على النيل، عانى عبد العاطى صائد الدبابات من أجل الحصول على ترخص لإقامة مخبز يعيش من دخله، عانى كثيرون ولم ينصفهم المجتمع، بينما انقض الطفيليون والفهلوية على مكاسب التنمية التى تحققت بعد انتهاء الحرب. أقول ذلك بعد 36 عاما مرت على انتصارات أكتوبر، وما زلت أرى ويرى غيرى فى هذا البلد أن رجال أكتوبر الذين حاربوا على الجبهة لسنوات طويلة، هم أخلص الرجال وأشجع الرجال، قدموا أرواحهم فداء لوطنهم ومازالوا يقدمون فى كل المواقع التى تولوها بعد تقاعدهم. أراهم فى أماكن عديدة وأقارن بينهم وبين أقرانهم الذين يشغلون مواقع مماثلة، وترجح كفة المقارنة لصالح أبطال أكتوبر. لقد زادت الحرب من صلابة الرجال، صقلت معادنهم الثمينة، وأهلتهم لكى يعيدوا لمصر كرامتها وعزتها.