«عرفنا أنماطا من المثقفين يفهمون الثقافة والفكر على أنها لسان ذرب وقلم سيال، وعقل يملك مهارة الاحتيال على الحق ليصبح باطلا، وعلى الأسود ليجعله أبيض، يلعبون بالأفكار ويضحكون على الذقون، ويسربلون أدنأ الأغراض بأنبل الشعارات، ومعظم هؤلاء للأسف الشديد من أصول اجتماعية متواضعة، نحتوا بأظافرهم فى الصخر طريقا صعبا وداميا ليصعدوا من أسفل السلم الاجتماعى إلى حيث يصبحون أقرب ما يكونون إلى القمة، وحين يجدون أنفسهم هناك، تأسرهم أضواء الكاميرات، ويفقدون تقدير أنفسهم، فيستكثرون ما وصلوا إليه، ويعضون بالنواجذ عليه، حتى لا يضيع، ويتملكهم رعب السقوط إلى القاع الذى صعدوا منه، وتصطك أوصالهم وأسنانهم فرقا من أعباء الانتماء للفقراء الذين كانوا منهم يوما، ورعبا من السجون والفصل والتجميد، فيتطوعون لتبرير كل ما يفعله السادة، ويقنعون أنفسهم بأن الثقافة حرفة كالحدادة والسباكة والنجارة، وكما أنه ليس من حق الحرفى أن يرفض عملا، اعتراضا على رب العمل، فليس من حق المثقف أن يضن بحرفته على أى نظام حكم، وبذلك أصبحوا بعضا من حاشية السلطان، يدافعون بشراسة عن الذين لا يؤمنون به، ويهاجمون بشراسة ما يعتقدون أنه الصواب والحق، يقفون كالحجاب على أبواب السلاطين، لا يغادرون مكانهم حين يغادر السلطان عرشه، ولكنهم يغيرون مواقفهم إذا ما عنّ للسلطان أن يغير مواقفه، أو يوم يخلفه خليفة يسير على خط سلفه بممحاة. وهؤلاء المثقفون الحرفيون يعيشون بضمير قلق، ووجدان سقيم، فهم ممزقون بين ولائهم لذواتهم التى لا يعبدون سواها، وإحساسهم الزرىّ بالعار، لأنهم أعجز وأجبن من أن يضحوا دفاعا عما يؤمنون فى أعماقهم بأنه الحق والعدل، وهم يغطون أنفسهم أمام أنفسهم، بمبالغة فى الاعتزاز بالكرامة، التى يمرغونها بالالتحاق والارتزاق، والفخر بالمكانة التى يمنحونها لأنفسهم دون اعتراف من أحد، والتى صنعوها على حساب كل ما هو قيمة حقيقية، تمنح الكرامة والمكانة، وهم يكرهون المخلصين والمضحين، ومن يملكون جسارة ركل القمة التى يلهثون هم للوصول إليها، ويتنازلون حتى الركوع للبقاء عليها، ويحقدون عليهم، لأنهم يكشفونهم أمام الآخرين، ويعرونهم أمام أنفسهم، ولأنهم رمز لذلك الجزء الذى يرفض أن يموت من ضميرهم الذى قتلوه». للأسف هذه السطور الرائعة التى قرأتها الآن ليست ملكى، ولكنها ملك يمين الكاتب الكبير أستاذنا صلاح عيسى الذى حاولت كثيرا أن أنزع محبته من قلبى فلم أستطع ولا أظننى أستطيع، تلك السطور كتبها الأستاذ صلاح فى مقدمة كتابه (مثقفون وعسكر) الذى يبدو أنه نسيه لدرجة أنه لم يفكر فى إعادة طبعه على كثرة ما أعاد طبعه من كتبه الرائعة، وأنا اليوم أهدى سطوره له عقب أن قرأت له مقاله الكارثة الذى يتهم فيه معارضى وزير الثقافة فاروق حسنى الذين رأوا أنه ليس أهلا لمنصب رئاسة اليونسكو بأنهم «طابور خامس»، نازعاً عنهم الوطنية والعقل معا، وعلى بعد صفحات من مقاله كان وزيره المفدى ينفى المصرية عن الكاتبة منى الطحاوى لأنها كتبت مقالا عارضه فى النيويورك تايمز، لن أسأل الأستاذ صلاح ولا الوزير الفنان ولا كُتّاب «التنوير بالقمع» ماذا تركوا للفاشيين والإرهابيين إذا كان هذا تعاملهم مع من يختلف معهم فى الرأى؟، وإذا كانت لدى الوزير ورؤسائه مشكلة مع الصهاينة الذين سالموهم وطبّعوا معهم وتنازلوا من أجلهم ووضعوا أيديهم على أكتافهم، فلماذا يجب أن ندفع ثمن الغباء الذى جعلهم يثقون بكيان غاصب استيطانى ويتنازلون من أجله مجانا؟، هل تنتظرون منا أن نصفق لتحول الوزير المفاجئ من الرومانسية إلى الأكشن؟، ومنذ متى أصبح التطاول على الذات الإلهية وجهة نظر، بينما التشكيك فى كفاءة الوزير الفنان خيانة عظمى؟، لن أسأل كل هذه الأسئلة، فقط سأتمنى أن يعيد الأستاذ صلاح قراءة (مثقفون وعسكر) الذى أتمنى ألا يكون قد نسيه تماما، خصوصا ذلك الفصل البديع «ماذا حدث للكاتب ص. ع. بعد منتصف ليلة شتاء؟»، لعله يتذكر الأيام التى كان يقف فيها كالأسد الهصور ضد وزير الثقافة يوسف السباعى الذى شكك يوما ما فى وطنية معارضيه، وبعد أن تقرأ ما خطته يمينك يا أستاذى لن أسألك بدورى «ماذا حدث للكاتب ص. ع. فى خريف العمر»، فأنا أعلم، وأنت تعلم، والله من فوقنا يعلم، ولذلك سأسأله تعالى لى ولك حسن الختام. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]