ذكرتنى رسالة السيد نقيب الأطباء التى بعثها للأستاذ سليمان جودة، ونشرها الأخير يوم السبت الماضى، بما تيقن به الفلاسفة الألمان «شوبنهاور» و«نيتشة»، وهو أن المنطق والعقلانية ما هم إلا أداة لتبرير أفكار نابعة عن دوافع لا عقلانية وربما لا شعورية، ترتبط بتركيبة المرء النفسية والأيديولوجية ومحاولات فرض الإرادة وإخضاع الآخر.. خطاب السيد النقيب ورئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب جاء هادئا ومكونا من عدة نقاط تبدو مقنعة، وتتعلق بمسائل عملية صحية وإدارية (حتى إذا كان معظمها قد تم تفنيده من قبل منظمة الصحة العالمية وجهات أخرى عديدة). هذا ما عدا بالطبع بند الخطاب الرابع، الذى تعلق بكون صاحبة مشروع حملة إبادة الخنازير قبطية، فهذا البند لم يتضمن سببا علميا أو تقنيا أو إداريا منطقيا، إنما وظيفته كانت الإيحاء بعقلانية الحيثيات الأخرى الواردة فى الرسالة، وبأن كل من اختلف معها افتقد المنطق والتوازن، وربما حتى عمل على إثارة الفتن- أو، باختصار، أنه هو الذى «يستحق الذبح»، كما لاحظ الأستاذ جودة.. لكن، كما علمنا «نيتشة»، فإن الكشف عن مواطن اللاعقلانية فى الخطاب العقلانى ظاهريا يتطلب تحليل الإطار التفسيرى الذى تنبع منه الحجج المعنية. وفى حالة النقيب الفاضل، الذى يستشهد بانتماء صاحبة فكرة الإبادة للجالية المسيحية، فهذا الإطار هو نفسة الذى سمح له بمحاولة منع نقل الأعضاء بين المسلمين والمسيحيين فى الماضى القريب، أى أنه لا يخلو من النزعات التعصبية التى يصعب دعمها عقلانيا، ولو ظاهريا. ومعتقدات السيد النقيب تلك لم تأت بطريقة شيطانية من فراغ، إنما جاءت وسط مناخ عام يسوده الانغلاق والتعصب المتنامى عبر أكثر من نصف قرن من الزمن. يسألنى مثلا بعض الأساتذة الأجانب، العاملين فى الجامعات الموجودة بالمدن الجديدة المحيطة بالقاهرة، لماذا يتوجب عليهم السفر لأكثر من ساعة زمن حتى يجدوا مكانا يمكن أن يتناولوا فيه كوبا من البيرة؟ وأرد عليهم بأنه، كما هو الحال فى علم الفلك، فالرحلة من هذه المدن لوسط القاهرة ليست فقط رحلة فى المكان إنما أيضا سفر فى حيز الزمان، إلى مدينة أخرى متعددة الثقافات والجنسيات والملل، ومجتمع متسامح منفتح على العالم. مجتمع قد اختفى بشكل شبه كامل الآن. فكما يلاحظ بعض هؤلاء الأساتذة، حتى مدن خليجية مثل دبى صارت أشبه، من حيث التعددية والتحرر، بالأوضاع التى يقرؤونها فى الكتب عن المدن مصر «أيام زمان» التى اختفت.. ونحن فى أمس حاجة للخبرات والاستثمارات التى تجلبها بدلا من تلك الأماكن المتجهة نحو الانفتاح التدريجى، فى زمن يسير فيه مجتمعنا فى الاتجاه المعاكس. فمن السهل القول إن الذى لا تعجبه أوضاعنا من «الخواجات» فليرحل، لكننا فعلنا ذلك من قبل- وبطريقة هوائية، دون تحضير- ولم يصب ذلك فى مصلحتنا. فكان قطع علاقاتنا الثقافية مع الغرب بعد الاستقلال من أكبر الأخطاء، التى لم تقع فيها دول كالهند مثلا.. وسأستشهد بمثال واحد فقط من علم الرياضيات لأوحى بحجم ما خسرناه، فمن أهم الدراسات فى مجال المعادلات التفاضلية مثلا كان كتاب العالم الإنجليزى «إى إل اينس»، الذى نشره سنة 1926، حين كان يعمل بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا)، والكتاب ما زال متداولا فى طبعات متتالية ويعتبر من أهم النصوص الأساسية فى ذلك الموضوع ليومنا هذا. لا شك أن رحيل مثل هذه الخبرات أتى بخسارة فادحة علينا، لكن سيادة المناخ المتزايد فى الانغلاق والعزلة عن العالم لا يؤثر فقط على أوضاع الأجانب، بل إن خطورته كامنة بالدرجة الأولى فى أنه قاتل للإبداع الفكرى المصرى، ولدور مصر كدولة رائدة علميا وفنيا فى المنطقة. فمن يراقب الحياة الثقافية عندنا خلال العقود الماضية لا يمكن ألا يلاحظ الحملات المتتالية لمصادرة الكتب والأفكار، حتى صارت الثقافة المصرية الحرة، التى مثلت قدوة وبوصلة لكل الأحرار فى العالم العربى، سرابا من الماضى (كما لاحظت مثلا، فى حسرة، كاتبة سعودية نشرت لها «المصرى اليوم» مقالا على هذه الصفحة منذ بضعة أسابيع). فى هذا الإطار، من الصعب اعتبار منطق الحملات المتتالية ضد ما تبقى من تعددية وحرية اختلاف فى مصر نابعا كليا عن حيثيات علمية وعملية عقلانية، كما يريد أن يقنعنا البعض، فالمسألة لا تتعلق فقط بإمكانية تناول «ساندويتش مورتاديلا» أو كوب بيرا. والمأساة لا تتعلق بصحوة دينية أصيلة، إنما بانتكاسة نحو الهوس الذهنى النابع عن فوضى وفقر فكرى ممتزج بالتدين السطحى المبنى على الشعائر والطقوس، فلا يلمس المعانى العقائدية الأعمق، المتعلقة بإيجاد معنى واتجاه لحياة الإنسان ووجوده. التدين الأعمق ليس كذلك. ومن يريد التأكد من ذلك، أو الإحساس بحجم الفجوة التى تفصلنا عن العالم المعاصر، حتى فى مجال الخطاب الروحانى، عليه مراجعة الكتاب الأخير لكبير أساقفة كانتربرى، الذى يحلل فيه نصوص المؤلف الروسى العظيم دستويفسكى، ويتطرق من خلال ذلك لعمق العقيدة، بأجنحتها الأخلاقية والتصورية والميتافيزيقية. ففى هذا النوع من البحث الأمين الدءوب عن المعانى والمثل، فى سبيل فهم أعمق لحالة الإنسان، يكمن الهدف الروحانى الأسمى- الهدف الذى تطمسه عندنا طقوس التدين السطحى، بعنفها الفكرى، وأحيانا الفعلى أيضا، والمجسدة حاليا فى جثث الخنازير المذبوحة، الممثلة والملقاة فى العرى، التى يبدو أنها بدت كال»تابو»، كالعفاريت أو الأرواح الملعونة المخيفة، فى أذهان ذابحيها المشعوذين. [email protected]