بعد تقديم مهيب من الثنائى الإعلامى القدير هلّت علينا د. مشيرة خطاب، وزيرة السكان، وقد تبوأت مقعدها على مائدة الحوار فى لقاء مباشر مع الجماهير الغفيرة لذلك البرنامج التليفزيونى الشهير، لتهدينا فيض الحكمة المصفاة فى أمور عديدة شملت زيادة السكان، وأطفال الشوارع، وتدنى التعليم، وتنظيم الأسرة، وختان الإناث، وتعقيم الرجال أو ما يقرب من ذلك، وكلها - بلا شك - مشكلات بالغة الصعوبة تئن من ثقلها الجبال، بيد أن وزيرتنا الجسورة قررت أن تمد ضياء حكمتها لتدلى برأيها فيما فعله أحمدى نجاد فى المؤتمر العالمى حول العنصرية. وكذلك فى صواريخ حزب الله الورقية، وهو افتعال بالغ السذاجة لا ينطلى على الكثيرين، خاصة على المتخصصين فى تكتيكات التواصل الإعلامى، ومنهم كاتب هذه السطور، لقد جاءت إلينا صاحبة التاريخ الدبلوماسى المجيد تحمل رسالة مبيتة ومبطنة لم تنجح محاولاتها المستميتة فى التمويه عليها، ولتسمح لى معالى الوزيرة بتعليق على بعض ما ورد فى حديثكم: أولاً: ماذا يضركم أن يقوم الرئيس الإيرانى باتهام إسرائيل من فوق هذا المنبر العالمى بأنها أكثر دول العالم قسوة وعنصرية، ولا يهم هنا أن يغادر القاعة ممثلو وفود 35 دولة بل حتى لو غادرها معظم الحضور، فالمهم هو أن الرسالة قد بلغت أقصى درجة من الوضوح، وكل ما قامت به هذه الوفود المهرولة نفاقاً لإسرائيل لا يساوى شيئاً - كما نوه كاتبنا الكبير فهمى هويدى فى مقال أخير له - أمام ذلك الفعل الجليل الذى قام به فارسنا التركى الطيب أردوغان وهو يغادر قاعة منتدى دافوس فى إباء وشمم، معترضاً على موقف أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى المشين، شديد الانحياز لإسرائيل إلى حد اعتبارهاجريمتها النكراء فى غزة دفاعاً مشروعاً عن النفس. لقد اعترضتم على ذلك قائلين إن ما قام به الرئيس الإيرانى ليس من البطولة فى شىء، وألمحتم كذلك إلى أمور عانت منها مصر - على حد قولكم - منذ بداية الخمسينيات، وقد قصدتم بذلك - سامحكم الله - عهدى عبدالناصر والسادات، وهو ما ينم عن وفاء زائد الحد لأصحاب الفضل من المؤكد أنه لن يروق لهم، وفى رأيكم أن هذه الأمور وما على شاكلتها لم تعد تتلاءم مع روح العصر، والدبلوماسية الحكيمة الهادئة التى تؤمنين بها أشد ما يكون الإيمان، وهو نمط من الدبلوماسية ثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، فشله الذريع فى التصدى لتلك الدبلوماسية الشرسة التى يشهرها الكيان الصهيونى سلاحاً فى وجه كل من تسول له نفسه أن يبدى اعتراضاً على ممارساتها اللاإنسانية فى قمع شعب فلسطين. أما كبرى الكبائر فهى المساس من قريب أو بعيد بما يعتبرونه معاداة للسامية، وها هى الدبلوماسية الشرسة، كما ترون، تعمل عملها بلا هوادة، لقد ولّى إلى الأبد يا سيدتى عهد دبلوماسية حفلات الكوكتيل والحضور بالملابس الرسمية والاحتفال بالمناسبات الوطنية، التى تمرستم عليها، فدبلوماسية عصر المعلومات ومجتمع المعرفة تتطلب عتاداً معرفياً، ومهارات تفاوضية عالية فى أمور غاية فى الدقة، علمية وتكنولوجية واقتصادية وسياسية وثقافية، أشك تماماً فى أنه كان لديكم الوقت لاكتسابها. ثانياً: وما كل هذا التباكى على عجز العرب عن أن يغتنموا حصاد مؤتمر العنصرية السابق فى ديربان بجنوب أفريقيا، وما تمخض عنه من مناصرة صريحة لموقف الفلسطينيين العادل، فحدثونا أنتم عما قامت به الدبلوماسية المصرية لاستغلال هذا الحصاد، فلم نعهد منها إلا مزيداً من التودد لإسرائيل ومرضاة لها، وهو ما جسده بكل جلاء ما ورد على لسان وزير خارجيتنا أحمد أبوالغيط، فى ذات البرنامج التليفزيونى الذى شرف باستضافتكم، عندما قال بالحرف الواحد معاتباً «الإخوة» فى إسرائيل - صدق أو لا تصدق - عيب يا جماعة اللى بتعملوه ده، وهو يقصد بالعيب هنا تلك المذبحة الإسرائيلية التى راح ضحيتها 1500 شهيد و5000 جريح من أشقائنا من أهل فلسطين. ثالثاً: لقد بدوتم على ثقة عالية بالنفس، وهذا بلا شك أمر طيب ومطلوب، وما من مشكلة عويصة أثيرت خلال اللقاء إلا وكان لديكم العلاج الناجح لها، ولكن هناك فارقاً كبيراً بين الثقة بالنفس والثقة بالحلول التى أسرفتم فى طرحها، فما نحن بصدده من مشكلات يتسم بالتعقد الشديد، وأربأ بكم أن تقعوا فى فخ وهم البساطة الخادعة. فكما قال قائل: لكل مشكلة يواجهها هذا العصر هناك حل بسيط وواضح وسهل بيد أنه خاطئ فى ذات الوقت، إن المشكلات المعقدة من قبيل تلك المدرجة فى ملف وزارتكم لا يمكن حلها من خلال تصورات فوقية، أو ما يُعرف فى علم الإدارة بحل المشكلات بالانقضاض عليها من فوق، فمثل هذه الحلول الهابطة من أعلى غالباً ما تذهب أدراج الرياح ما إن تصطدم بتضاريس الواقع. فالمشكلات المعقدة على اختلاف أنواعها يتم التصدى لها - عادة - باتباع الأسلوب العكسى الذى يتعامل معها من أسفل إلى أعلى، وهو أسلوب ينطلق من أرضية الواقع، ومن كون حل المشكلة هو عملية تعلم a learning Process، ومداومة التصويب والتعديل والتكيف مع المواقف الطارئة، وهو ما يتطلب من وزارتكم هياكل تنظيمية ذات طابع دينامى شديد التفاعل مع الواقع، ودعماً معلوماتياً هائلاً لرصد هذا الواقع، وكلا الأمرين أشك تماماً فى توفره لدى وزارتكم الناشئة، فحدثونى - والأمر كذلك - كيف واتتكم كل هذه الجسارة فى اقتراح الحلول بهذه الدرجة العالية من التحديد إلى حد التفاصيل الدقيقة على المستوى الإجرائى. رابعاً: إن مشكلات العصر لم تعد تُحل عن طريق الإلزام فقط من خلال القوانين وتغليظ العقوبة، فالأهم من ذلك هو الالتزام من قبل المواطنين أنفسهم، والذى لا يتأتى إلا بتوفر العدالة الاجتماعية والشفافية والمساواة فى الحقوق والواجبات، والأهم من هذا وذاك الثقة فى أن حكومتهم ترعى مصالح البسطاء وتتصدى لجشع الأمراء، وثقتى التامة فى أنكم تدركون أنه سيمضى وقت طويل قبل أن تنعم مصر بمثل هذه الأمور، أقول هذا بعد بأن سمعت صرخة سبارتكوس المدوية التى أطلقتموها تطالبنا أن نقف جميعاً بكل حزم صفاً واحداً ضد كل أب يُقْدم على تشغيل أطفاله ليسد أفواه باقى أعضاء أسرته، فمن ينامون جوعى يا سيدتى ليس لديهم مثل هذه الرفاهية، ولكن ماذا على المرء أن يتوقع من هؤلاء القوم السعداء من ذوى الحظ الوفير فى مصرنا المحروسة الذين لم يذوقوا طعم الجوع يوماً، ولن يصل بهم خيالهم أبداً أن هناك إخوة لهم، فى ذات مصر المحروسة أيضاً، باتوا يفتشون عن الغذاء فى مستودعات القمامة. ودعونى أؤكد لكم أيضاً أننى ضد عمالة الأطفال بصورة قاطعة، شريطة أن يصاحب ذلك توفير ما يسد هذه الأفواه الجائعة، وأصارحكم القول إن موقفكم هذا ذكرنى بموقف مارى أنطوانيت الشهير التى انتابتها الدهشة الشديدة عندما سمعت الغوغاء يهتفون مطالبين بالخبز فى حين أن لديهم بديلاً آخر مما تطلقون عليه «الكورواسون»، وفى صياغة مصرية: ياكلوا حلاوة ياكلوا جاتوه ياكلوا كل اللى يحبوه، مع الاعتذار لمصر للتأمين وإعلانها التليفزيونى الشهير. خامساً: ولا يفوتنى هنا أن أعبر لكم عن تقديرى نيابة عن كل شعب مصر لتبرعكم السخى بنظارتكم الأنيقة السوداء التى أخشى أن تكون عتمتها قد حالت بينكم وبين رؤية الواقع، وأقدر لكم أيضاً تصميمكم على أن يتبرع مضيفكم الإعلامى الفذ هو الآخر بساعته ذات الخمسة وأربعين ألف دولار أمريكى فقط لا غير، برغم شدة احتياجه لها لضبط توقيتات الفواصل الإعلانية التى تتخلل برامجه الرائعة عن فقراء مصر ومقهوريها. وللإنصاف فإنه، ورغم كل ما سلف، فقد شعرت فى حديثكم بقدر هائل من صدق العزم وحسن النية، ولكن الطريق كما تعرفون إلى عشوائيات مصر كان مفروشا دوماً بالنوايا الحسنة، فما أكثر الخطط والاستراتيجيات السابقة للنهوض بالعشوائيات، والتى توجت - أمدّ الله فى عمركم - بذلك المشروع الطموح لتطوير القاهرة بحلول عام 2050، وكلى ثقة أن الأمر لن يصل أبداً إلى حد اقتراح نظارة شمس لكل طفل من أطفال الشوارع تقيه حرارة الشمس انتظاراً لحلول اللمسة السحرية. وهل لى أن اترككم فى ختام حديثى مع ما قاله الاقتصادى الهندى العظيم أمارتا سن، الحائز على جائزة نوبل فى اقتصاد الفقراء، وهو يصف تلك الفئة من الاقتصاديين بالعقلاء الحمقى الذين لم يحرك لهم ساكناً موت بلايين البشر جوعى رغم وفرة مصادر الغذاء، وكذلك مع ما يؤثر عن بيتر دروكر، عالم الإدارة الشهير، من قوله إنه لم يصادف على مدى دراساته الطويلة اقتصادياً واحداً انشغل ب«من أين يأتى بثمن وجبة الغذاء المقبلة».