ليس أسوأ من مساواة القاهرة بين التهديدين النوويين الإسرائيلى والإيرانى، سوى أن مصر اقتربت جدًا من الوقوف ما بين قنبلتين نوويتين وبلدين قادرين وقوتين نافذتين فى الإقليم، فيما لا تملك سوى أحاديث مكررة عن الأدوار التاريخية والمعاهدات الدولية والتطمينات الأمريكية وعوامل ردع لا تحقق لها التوازن. أعلن رئيس وزراء باكستان الأسبق ذوالفقار على بوتو يوماً أن شعبه «سيمتلك القنبلة.. حتى ولو أكل العشب»، فهدده وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر آنذاك: «لو أقدمت على تطوير السلاح النووى.. سنجعل منك عبرة للآخرين». لكن هذا التهديد لم يثن باكستان عن السعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تصنيع القنبلة، لتطور الرادع النووى، الذى سيمكنها من تحقيق نوع من التوازن فى صراعها مع عدوها اللدود الهند، فى ظل التفوق الكبير لهذا الأخير فى مجال التسلح التقليدى. اُغتيل بوتو، لكن خلفه ضياء الحق أكمل تطوير السلاح النووى، حتى أذهلت باكستان العالم فى العام 1998، بستة تفجيرات ناجحة، انضمت بها إلى النادى النووى، فصارت «عبرة» فعلاً كما هدد كيسنجر، لكن فى الطموح والإرادة، وليس فى الرضوخ والاستسلام. قبل أيام التقى الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد زعيمى حركتى «حماس» و«الجهاد» خالد مشعل ورمضان شلّح فى دمشق، فدعاهما إلى التمسك بالمقاومة والوحدة، اقتداء بتمسك بلاده ببرنامجها النووى. صحيفة «الشرق الأوسط» نقلت عن مصادر فلسطينية قولها إن نجاد أبلغ مشعل وشلّح نصاً: «لو لم تتمسك إيران بالمشروع النووى وتراجعت عنه، لفقدنا عنصر القوة عندنا وانهرنا أمامهم.. الأمريكيون يركضون الآن وراءنا جراء صمودنا أمام كل الضغوط». وفيما كان نجاد يدعو حليفيه مشعل وشلح إلى الصمود والمقاومة، كان وزير الدفاع الأمريكى روبرت جيتس يتنقل بين القاهرة والرياض محاولاً طمأنة العاصمتين من أن «الأذرع الأمريكية المفتوحة تجاه إيران، لن تكون على حساب علاقات واشنطن مع حلفائها فى المنطقة». استمرت مصر والسعودية كثيراً فى تدعيم التحالف مع واشنطن وإشعال الخلافات مع إيران ومناهضة سلوكها وحضورها الإقليمى، ثم أتى الحليف الأمريكى فجأة، ليمد أذرعه ل«العدو المشترك، وقطب محور الشر، والراعى الأول للإرهاب». القاهرة والرياض فى ورطة حقيقية اليوم. على مدى ثلاثة عقود،حيث استثمرت العاصمتان الكثير فى التزام معاهدة حظر الانتشار النووى، وإبقاء سلوكهما التسليحى عند أعلى درجات الشفافية، والتمسك بخيار السلام الاستراتيجى فى مواجهة كل ما حاق به من تسفيه ونكبات، ومواجهة الإعلام والجمهور الفائر دفاعاً عن التهدئة وتجريحاً فى «المقاومة»، وتبديد أى محاولة لبناء علاقة مصلحية متوازنة مع الجار الإيرانى المهم، ثم جاء الحليف الأمريكى فجأة ليخبرهما، ببساطة، أن احتمال عقد صفقة مع إيران يبدو مرجحاً، وأن كل ما يعد به فى هذا الصدد أن هذه الصفقة لن تكون «سرية»، وأن مصالح الحلفاء ستؤخذ بالاعتبار. من يراقب الخطابين الإيرانى والسورى خلال الأيام القليلة الفائتة يلحظ نبرة انتصار وزهو واضحة، ومن يستمع إلى التصريحات الآتية من واشنطن يلحظ لغة تبرير واعتذار من جهة وعزمًا واضحًا على مقاربة الملف الإيرانى بشىء من الود ووعودًا من جهة أخرى، ومن يرصد التحركات الخليجية يكشف إحساساً يراوح ما بين الإحباط والتذمر جراء التطورات الإيجابية على صعيد العلاقات الإيرانية- الأمريكية، أما من يرصد الموقف المصرى فلا يجد سوى رد فعل عصبى يكشف عن مزيج من التخبط والهلع. أربعة سيناريوهات رئيسية تحكم مستقبل الملف النووى الإيرانى، أولها: الحرب الكاملة الممتدة وثانيها: الضربات الموضعية المحكمة، أمريكية كانت أو إسرائيلية وثالثها: الرضوخ الإيرانى بفعل إطاحة النظام أو احتوائه وعزله، ورابعها: امتلاك طهران القنبلة قسراً، أو فى إطار ترتيبات أمنية متبادلة مع الولاياتالمتحدة. يبدو أن حظوظ السيناريو الرابع آخذة فى الزيادة، إذ ينحو أوباما إلى مد الأيدى، وترميم الجراح التى خلّفها سلفه بوش، ما قد يؤدى إلى اعتبار القدرة والإصرار الإيرانيين، وبناء نظام ردع كذلك الذى أُنجز مع الاتحاد السوفيتى السابق، ومراجعة الضمانات الأمنية كما يحدث دورياً مع الهند وباكستان. الإشكال الذى يتعلق بالسيناريو الرابع أنه سيضمن لإيران مصالح وميزات تليق بقوة عظمى إقليمية، بعضها، إن لم يكن معظمها، سيكون على حساب مصر وخصماً مما بقى من رصيدها. سربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأسبوع الفائت، تقارير سرية تفيد بعثور مفتشيها على آثار يورانيوم مخصب فى مصر يصلح للاستخدام فى تصنيع سلاح نووى، وقد سارعت القاهرة إلى نفى تلك التقارير، وتبريرها تبريراً بدا مقبولاً، كما استغربت تسريبها فى هذا الوقت بالذات. لكن «يديعوت أحرونوت» كتبت، الخميس الماضي، أن نشر هذه التسريبات «مفيد جداً لإسرائيل، إذ يصرف انتباه أوباما عن دعوتها للانضمام لمعاهدة حظر الانتشار النووى، ويوجه أنظاره إلى مصر». يعرف الخصوم فى الإقليم أن مصر أضعف من أن تبنى سلاحاً نووياً، وأسهل من يُبتز بالحديث عن القانون والمعاهدات، وأفضل من يسارع إلى نفى التهم وتبرئة الذمة وإطلاق التصريحات المكررة المملة. أضاعت مصر عقوداً عديدة فى استثمار بدا وهمياً، وهى توشك أن تقف، عزلاء قليلة الحيلة، بين قنبلتين نوويتين، فى إقليم لا يحفل سوى بالقوة، وقوة لا تتحقق سوى بالإرادة.