اعتراض البعض على قرار الحكومة المصرية ذبح الخنازير فى مصر، كإجراء احترازى لمحاصرة فيروس اقترن باسمها وأصاب بعضها فى الخارج ومنع تحوله إلى وباء، هو أمر طبيعى ومفهوم وله ما يبرره علميا وموضوعيا، فالدول التى ظهر فيها الفيروس لم تقدم على إجراء من هذا النوع لأنها لا ترى له ضرورة صحية فى الوقت الحاضر، ومنظمة الصحة العالمية، وهى الهيئة الدولية المسؤولة عن مكافحة الأوبئة، لم تنصح به كوسيلة فعالة من وسائل مكافحة الوباء أو الوقاية منه، أما أسباب ذلك فهى كثيرة، فإلى جانب الرغبة فى الحفاظ على ثروة وطنية وعدم التفريط فيها إلا عند الضرورة القصوى، توجد أسباب أخرى علمية تتعلق بطبيعة الفيروس نفسه، فهذا النوع من الفيروسات، أو فلنقل جيله الحالى، قابل للانتقال، ليس فقط من الخنازير المصابة إلى الإنسان وبالعكس، ولكن أيضا من الإنسان المصاب إلى أى إنسان آخر، مثلما تنتقل الأنفلونزا البشرية العادية، لذا فهو يختلف كثيرا عن الفيروس المسبب لمرض «أنفلونزا الطيور» الذى ينتقل إلى الإنسان من الطيور المصابة به فقط، ومن هنا خطورته الشديدة كوباء قابل للانتشار بسرعة. ولأن عدوى «أنفلونزا الخنازير» دخلت الآن مرحلة الانتقال من وإلى البشر، فإن التخلص من الخنازير، خاصة غير المصابة بالفيروس، يصبح أمرا ليس فقط غير ضرورى ولكن بلا جدوى أيضا، خصوصا على المدى القصير. وحالة الغضب والثورة التى أثارها هذا القرار لدى الجماعات المتضررة منه مربى الخنازير وجامعى القمامة يمكن فهمها أيضاً، فمن حق هؤلاء أن يطالبوا بتعويض عادل عن الأضرار التى ستلحق بهم جراء تطبيق هذا القرار، قد يأخذ شكل تعويض مادى عن خسارة رؤوس أموالهم أو جانب منها، أو شكل إعادة التأهيل لوظائف أو أعمال أخرى إذا ما طلب منهم ترك المهنة، أو شكل تهيئة بيئة معيشية مناسبة فى حالة ما إذا تقرر نقل نشاطهم بعيدا عن التجمعات السكنية، فهذه مطالب طبيعية لمواطنين يمارسون نشاطا مهنيا لا يحرمه القانون، تقابلها حقوق لابد من الاعتراف بها للدولة فى إطار مسؤوليتها فى الحفاظ على الصحة العامة والنظافة. وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لأقول إننى على استعداد لتفهم دوافع البعض بل والدفاع عن حقه فى إثارة نقاش عام حول جدوى تربية خنازير لا تقتات إلا على القمامة، وهو أمر لا مثيل له فى أى مكان آخر فى العالم، فى بلد إسلامى لا تتناول الأغلبية الساحقة من سكانه لحم الخنزير. غير أننى أعتقد أنه يجب أن تحكم هذا النقاش ضوابط عامة أهمها: 1- أن يكون مدفوعا بالحرص على مصلحة أو لدرء خطر أو مفسدة، 2- أن يجىء مدعما بحجج وأسانيد علمية تثبت أن الأضرار الناجمة عن استمرار وضع معين أكبر من المنافع المتحققة من إزالته، 3- أن تكون المعايير المستخدمة، فى تحديد طبيعة وحجم المصالح أو الأضرار، عامة ومتفقًا عليها من جميع الأطراف، وليست خاصة بجماعة دينية أو فئوية معينة، فمعايير «النفع العام» أو «المصلحة العامة» يسهل التوصل إلى إجماع حولها، أما معايير الحلال والحرام فهى نسبية تختلف باختلاف الأديان والمذاهب، ومن ثم يستحيل التوصل إلى إجماع حولها، ولأن من حق كل مواطن ممارسة حياته بالطريقة التى يريدها، فلا يوجد مبرر لتقييد سلوكه إلا فى إطار الالتزام العام باحترام القانون. لذا أشعر بقلق شديد من المنحى الذى اتخذه نقاش دار فى مصر مؤخرا حول قرار الحكومة التخلص من الخنازير كلها دفعة واحدة، بالإعدام أو بالذبح، وليس فقط ما يثبت إصابته منها بالفيروس القاتل، إذ سرعان ما انحرف النقاش حول موضوع، كان يجب أن يظل فى الأساس محصورا فى جوانب محددة، تتعلق بعلاقته بالصحة العامة والنظافة والمظهر الحضارى للمدن والتجمعات السكنية، وحولها إلى قضية طائفية، رأى فيها البعض دليلا إضافيا على وجود تمييز واضطهاد منهجى ضد أقباط مصر، وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على أن وباء أشد خطورة وفتكا ضرب المجتمع السياسى وتمكن منه بعد أن استوطن فيه وأصبح يهدد الجسد المصرى كله بفقدان المناعة.. فكيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ للإجابة عن هذا السؤال، أدعو القارئ، إلى أن يتأمل معى سلوك الأطراف التى اشتبكت معا، لأسباب ودوافع مختلفة، فى «معركة الخنازير» هذه، كى تدرك إلى أى مدى تحولت البيئة السياسية فى مصر إلى بيئة ملوثة تهدد الجميع، وهى: 1- الحكومة: والتى كان عليها أن تتحرك فورا لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المجتمع المصرى من وباء ظهر جليا أنه يقترب بسرعة من حدودها، وبدلا من دراسة الموضوع من جميع جوانبه دراسة علمية، لبلورة البدائل المتاحة ثم ترتيبها بناء على حسابات المكسب والخسارة المتوقعة، تمهيدا لاختيار الأفضل من بينها، أى الأكثر فعالية فى مقاومة الداء والأقل كلفة، اتخذت كالعادة قرارا بدا واضحا أنه عشوائى، ومتعجل، وغير مدروس. ولأن الحكومة لم تكلف نفسها شرح مبررات القرار وتوضيحها للناس، كى يتفهموا الحكمة من ورائه ويقتنعوا أنه البديل الأفضل، فقد كان من الطبيعى أن يخضع للمساومة والابتزاز ومن ثم للتغيير. لذا طرح فى البداية على أنه قرار «إبادة» ثم تراجع إلى «ذبح»، وقد ينتهى إلى شىء آخر أو لا شىء. 2- جماعة الإخوان: وكان عليها، بوصفها كتلة المعارضة السياسية الأكثر تمثيلا فى البرلمان، أن تبدى اهتماما بموضوع على هذه الدرجة من الخطورة. لكنها بدلا من التعبير عن قلقها من وباء يهدد الجميع، مسلمين ومسيحيين، راح بعض أفرادها، كالعادة، يدفع بالنقاش إلى مناطق وعرة، مطالبا بإبادة «هذا الحيوان النجس فى بلد الأزهر». وهذا خطاب أقل ما يقال فيه أنه يعكس عدم نضج سياسى خطر ومكلف. 3- أقباط الداخل: والذين أحسوا أنهم مستهدفون بالقرار، ولأن معظم العاملين فى مجال تربية الخنازير من الأقباط، فضلا عن أن جماعة الإخوان بدت الأكثر تشددا فى موقفها، فقد كان من الطبيعى أن يتشكك البعض فى الدوافع الحقيقية لقرار ليس له ما يبرره صحيا أو علميا، لكنهم بدلا من مناقشة القرار بشكل عقلانى وعلمى فى ضوء ما هو معروف مسبقا عن طريقة الحكومة فى اتخاذ القرار، راح البعض يشم فيه رائحة «طائفية» ويتعامل معه على هذا الأساس. وهذا خطاب أقل ما يقال فيه إنه مفرط فى حساسيته إلى درجة التجنى والانسياق نحو مزالق خطرة. 4- أقباط الخارج: وقد رأت أن من واجبها مناصرة «إخوانها فى الدين»، ظالمين كانوا أم مظلومين، فقد راحت بعض التنظيمات المشبوهة تنفخ فى النار المشتعلة وتحاول تأجيجها، وكان هذا أحد الدوافع الرئيسية التى دفعتنى لكتابة هذا المقال وتأجيل الكتابة فيما كنت قد بدأت الحديث فيه الأسبوع الماضى. فقد وصلتنى عبر البريد الإلكترونى رسالة كان يتم تبادلها طوال الأسبوع الماضى، موقعة من شخص اسمه موريس صادق، يصف نفسه بأنه محام، ورئيس الجمعية القبطية، عضو نقابة المحامين والمستشار القانونى بالولايات المتحدة، ورغم معرفتى المسبقة بتعصب الشخص وتطرفه، فإننى ذهلت من اللغة التى استخدمها فى هذه الرسالة والتى تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وقد ترددت كثيرا فى أن أقتبس منها أو أشير إلى اسم صاحبها، لكننى أفترض أنها وصلت إلى مئات الآلاف من مستخدمى الشبكة العنقودية ومن ثم لزم التنبيه والتحذير.. تقول إحدى فقراتها بالنص: «ويشترى 10 ملايين قبطى لحم الخنزير ومنتجاته لرخص ثمنه وحلاوة طعمه، بينما يرفض أحفاد الغزاة العرب المسلمين والذين يحتلون مصر، بمن فيهم حسنى مبارك الذى تمت فى عهده أبشع أنواع الجرائم من قتل ونهب وتهميش الأقباط وخطف بناتهم وأسلمتهن وأسلمة التعليم والقضاء والشرطة والسلك الدبلوماسى والذى أراد إنهاء عهده الظالم ضد الأقباط بإعدام 2 مليون قبطى يتعايشون من الخنازير ويحرم الأقباط من أكلها». طبعا هذا كلام رخيص، ينمّ عن جهل فاضح بكل الأديان، وليس بالدين الإسلامى وحده، وحقد أعمى يمكن أن يتسبب فى أفدح الضرر حتى بالأقباط الذين يدعى أنه يدافع عن قضيتهم.. أعلم أن الأغلبية الساحقة من أقباط مصر تتبرأ منه وتدينه، وعليهم أن يعيدوا تأكيد إدانتهم له، لكن ما يزعجنى هنا هو هذا المناخ العام الموبوء والذى ترتع فيه كائنات مصابة بفيروس أكثر فتكا من «أنفلونزا الخنازير».. انظر حولك تجد أن خطر «الفتنة الطائفية» يقترب منا بسرعة فائقة!.. فهل نبقى هكذا فى مقاعد المتفرجين؟ الآراء الواردة فى هذا المقال لا تعبر عن منتدى الفكر العربى بعمان، الذى يشغل الكاتب منصب أمينه العام