«.. إذا لم يكن فى الناس مَنْ يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الهدى فسد نظام العالم وتنافرت القلوب ومتى تنافرت القلوب نزل البلاء، ومن المعلوم المقرر أن صلاح الأمة بالعلماء والملوك، وصلاح الملوك تابع لصلاح العلماء، وفساد اللازم بفساد الملزوم، فما بالك بفقده، والرحى لا تدور دون قطبها». عندما كتب مؤرخنا العظيم عبدالرحمن الجبرتى هذه الكلمات الصادقة الموجعة الملخصة والمخلصة قبل عشرات السنين، لم يكن الجبرتى يظن ولو فى أسوأ كوابيسه أن الجامع الأزهر سيكون على رأسه يوما ما شيخ يضع مكانته الجليلة فى خدمة السلطة لدرجة لم نعد نستبعد فيها أن يفتينا قريبا أن التوريث من أحب الأعمال إلى الله. لم يكن الجبرتى لحسن حظه قد شاهد برامج الإفتاء التى تفتى فى كل شىء تحت الخصر طالما لا يؤذى سيد القصر، ولم يكن قد رأى بأم عينيه حملة كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وهم يتسابقون على نيل شرف التصفيق للسيد الرئيس فى كل مناسبة دينية أو دون ذلك، دون أن يكلف أحدهم خاطره بأن يعمل بميثاق العلماء الذى أخذه عليهم الله ليبيننه للناس ولا يكتمونه فيواجهون حاكم البلاد بما تسبب به من آلام الناس وأوجاعهم. يومها كان الجبرتى يصف فى الجزء الأول من تاريخه فجيعة المصريين بموت مفتى الديار المصرية الشيخ الحناوى، معتبرا أن حال العلماء فى عصره من أبرز «مظاهر نزول البلاء واختلال أحوال الديار المصرية»، فماذا نقول نحن الآن عن بلائنا النازل وأحوالنا التى فى النازل. المؤسف أننا مهما قلنا لن نقول أكثر مما قاله الجبرتى نفسه فى الجزء الثالث من تاريخه عن فقهاء السلطان والبيزنس الذين «افتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج... وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين... وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميرى والفايض والمضاف والرماية والمرافعات والتنجى مع الأقباط واستدعاء عظمائهم فى جمعياتهم وولائمهم والاعتناء بشأنهم والتفاخر بتردادهم عليهم، والمهاداة فيما بينهم إلى غير ذلك». أقفل قوس التنصيص لأفتح قوسا مفترضا أؤكد فيه أهمية ألا نُخرج كلام الجبرتى عن سياق العصر الذى كان يكتب فيه ولا أن نفصله عن تبرم الجبرتى وغيره من اتصال عدد قليل جدا من المسلمين والأقباط بالفرنسيين الغزاة، لكننى لا يمكن أن أجبرك على أن تطرد من خيالك وأنت تقرأ كلامه صور موائد الوحدة الوطنية التى لم ينتج عنها سوى زيادة أوزان من يحضرونها من المسلمين والأقباط، والتى ربما كانت حسنة أنفلونزا الخنازير الوحيدة أنها كانت سببا فى إلغائها هذا العام. الآن وهنا وبعد كل هذه السنوات على رحيل الجبرتى وعندما تدير النظر فيما حولك يبدو لك أن الدين حاضر فى كل ما حولنا من فرط ما نتكلم عنه لكنك لو أطلت النظر قليلا لوجدت جوهره غائبا عن كل ما حولنا، ربما لأننا لم نشهد عالما قدوة على غرار الإمام الحسن البصرى يقتدى به المحكوم عندما يرى جرأته فى نصح الحاكم، يروى لنا التاريخ كيف مر يوما على باب الأمير ابن هبيرة فوجد عددا من العلماء يقفون أمامه فقال لهم «ما يجلسكم هنا، تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء، أما والله ما مجالسهم بمجالس الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد شمّرتم ثيابكم وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم الله، أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم». قالها وقد بدأ بنفسه عندما واجه الطاغية الحجاج بن يوسف مواجهة ذلَّ فيها الحجاج بكل بطشه، سأله البصرى: «كم بينك وبين آدم من أب؟» فأجاب الحجاج: «كثير» فسأله: «أين هم الآن؟» فخشع الحجاج ولم يجرؤ على معاقبته. من يسأل سؤالاً كهذا اليوم؟.. ومن يخشع؟ * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]