إن الاحتلال يبقى دائما هو الاحتلال مهما اختلف الزمان والمكان، ومهما تعددت أو اختلفت طبيعة القوى التى تقوم بفعل الاحتلال ضد أراضى وشعوب الأطراف المحتلة، ولهذا كان تعريف الاحتلال واحدا من أهم القضايا التى جرى البت فيها وحسم أمرها قبل وقت طويل من الزمان بما لم يعد يسمح معه بالتأويل أو الالتباس، وقد نصت المادة 42 من لائحة لاهاى لعام 1907 على تطبيق قواعد القانون الدولى على كل الحالات التى تصبح فيها أراضى أى دولة أو شعب تحت سيطرة قوة معادية حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال بمقاومة مسلحة ولم يكن هناك قتال، ومن الطبيعى أن تقفز مباشرة إلى الذهن صورة الاحتلال الإسرائيلى البشع للأراضى الفلسطينية، وهى الحالة الاحتلالية الأكثر خطورة، كما أشرنا إلى ذلك فى مقالات سابقة، من بين جميع ما عرفته المنطقة العربية بدولها وشعوبها من حالات احتلالية أخرى، فالاحتلال الإسرائيلى هو احتلال إجلائى يعتمد أساليب التطهير العرقى ويقتلع السكان الأصليين من أراضيهم، وهو احتلال استيطانى يقوم بإحلال سكانه المهاجرين للاستيطان محل السكان الأصليين فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، وهو استعمار «كولونيالى» يعنى بنهب ثروات الشعب المحتل وتدمير اقتصادياته ومقوماته الثقافية والاجتماعية، وهو احتلال بالأصالة، لأنه يزعم أنه يعود إلى أرضه بموجب ما يسمى حقه التاريخى فى هذه الأرض، وهو فى الوقت ذاته احتلال بالإنابة لأنه يدعى أنه جزء عضوى من الحضارة الغربية ويدافع عن مصالحها وقيمها، وهو احتلال عدوانى توسعى يهدد أمن واستقرار العديد من دول هذه المنطقة. إن النموذج الإسرائيلى بصفاته المشار إليها هو واحد من أكثر وأشد حالات الاحتلال خطورة فى كل تاريخ منطقة الشرق الأوسط، ويمثل الغزو والاحتلال الأمريكى للعراق نموذجا آخر استعادت فيه الولاياتالمتحدة حالات الغزو والاحتلال الاستعمارى الكلاسيكى القديم رغم تحولها إلى القوة الإمبريالية الأعظم فى تاريخ العالم، لكن هذا النموذج بطبيعته يضطر تحت وطأة المقاومة إلى ملاءمة أوضاعه والانسحاب من العراق بعد أن تكبد أكثر من 4000 قتيل من قواته، وخسر أكثر من 300 مليار دولار هناك. لكن هذه الحالات الاحتلالية، خاصة الإسرائيلية وعلى خطورتها البالغة، ليس لها أن تعمينا عن النظر إلى المخاطر المحدقة بنا والتى تجسدها احتلالات القوى الأخرى للأراضى العربية. وقد يكون علينا أن نبدأ إعادة النظر فى هذا الموضوع الخطير من أقصى الشمال الغربى للقارة الأفريقية، حيث تقع المملكة المغربية الشقيقة، كان المغرب شهد، فى أكثر من مناسبة، ربما أكبر وأضخم المظاهرات العربية الشعبية المليونية التى انطلقت تأييدا للشعب الفلسطينى وللتنديد بالاحتلال الإسرائيلى، وهو ما يعكس قوة الالتزام العربى والقومى للشعب المغربى الذى يستوجب كل تحية وتقدير، لكن ذلك الأمر يلفت النظر إلى مفارقة مذهلة حيث لا يتناسب نفس رد الفعل المغربى والعربى بشكل عام مع وضعية الأراضى المغربية التى لاتزال تخضع للاحتلال الإسبانى خاصة منطقة سبتة، وهى ميناء حيوى يسمح للاحتلال الإسبانى بالسيطرة الاستعمارية على حوالى 85% من مساحة المياه الإقليمية بين المغرب وإسبانيا، كما تواصل إسبانيا احتلالها لمدينة مليلية المغربية والجزر الجعفرية الأخرى، وكما فى أغلب الحالات الاحتلالية، سعت إسبانيا إلى تجنيس المغاربة فى سبتة ومليلية وفصلت المنطقتين عن الأراضى المغربية بالأسوار والتجهيزات الهندسية، وأقامت نقطة حدودية رفعت فوقها لوحة ضخمة كتبت عليها بعدة لغات: «أهلاً بكم فى الاتحاد الأوروبى»، وكان الملك الإسبانى خوان كارلوس قام بزيارة تفقدية لمدينة سبتة المغربية المحتلة للإيحاء بأنها جزء من الأراضى الإسبانية وليس المغربية العربية، ويمكن الإمساك بقسم غير قليل من القومجيين العرب وهم متلبسون بجريمة الصمت على حالة احتلالية أخرى ربما يكون لها وقع أكبر شدة وأكثر خطورة كونها تخص النظام السورى الذى يتزعم ما يسمى «محور الممانعة» الذى لم يتورع عن اتهام أغلب الأنظمة العربية بالتخاذل والاستخزاء، ولا يتعلق حديثنا هنا عن الحالة الاحتلالية المعروفة لهضبة الجولان السورى التى تشهد منذ عام 1974 هدوءا شاملاً، حيث يجدد النظام فى سوريا اتفاقية وقف إطلاق النار مع إسرائيل بشكل منتظم وبلا تردد أو انقطاع منذ 74 وحتى الآن، كما لا يتعلق الأمر بعدم رد سوريا الأسد الابن على الانتهاك المتكرر لسلاح الجو الإسرائيلى لحرمة الأجواء السورية سواء فوق مقر الرئاسة فى دمشق أو فوق منزل الرئيس فى قرداحة باللاذقية، كما لا يتعلق الأمر بقصف الطيران الإسرائيلى للمشروع النووى السورى فى دير الزور ولا بعدم رد سوريا على اغتيال عماد مغنية فى قلب دمشق، فهذه كلها من الأمور المعروفة، التى جرى قتلها بحثا دون أن تثير لدى نظام الرئيس الأسد الابن أى ردود فعل مختلفة عن سلوكه المعتاد، ولكن ما نعنيه هنا هو الحالة الاحتلالية الأخرى الفاضحة والمسكوت عنها فى لواء الإسكندرونة الذى كان يعتبر إلى وقت قريب جزءا عزيزا من التراب الوطنى العربى لسوريا حتى بعد أن احتلته تركيا فى عام 1939، أى قبل اغتصاب فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلى بأقل من عشر سنوات فقط، وكانت سوريا تحافظ على إدراجه فى الخرائط الرسمية وفى مناهج الجغرافيا المدرسية، ولكن تدريجيا جرى إسقاط لواء الإسكندرونة من هذه الخرائط ولم تعد سوريا الرسمية تأتى على ذكره وكأنها سلمت لتركيا باحتلاله، ومن جهتها قامت تركيا بعملية «تتريك» واسعة النطاق، وغيرت كثيرا من التركيب الديموجرافى ل«الإسكندرونة»، وحولته الآن إلى واحد من أهم موانئها وفرضت عليه قوانينها وأصبح لواء الإسكندرونة السورى فى خبر كان عربيا، ومن المفارقات العربية المدهشة أن يقوم النظام السورى بتوسيط تركيا التى تحتل لواء الإسكندرونة السورى للتفاوض مع إسرائيل التى تحتل هضبة الجولان السورية، وكأننا نشهد فصلا ساخرا فى كوميديا سوداء بعد الإعلان مؤخرا عن فتح الحدود بين البلدين والاحتفال بإطلاق رحلات بقطارات السكك الحديدية جرى تدشينها، دون أى إحساس بالخجل، من محطة «تركية» فى لواء الإسكندرونة السورى «سابقا». وفى 25/12/2009 صدر بيان مشترك عن الزيارة التى أداها أردوجان لدمشق، تضمن التأكيد على تعزيز العلاقات من منظار إستراتيجى، وأعلن الجانب السورى عن «تقديره للدور المحورى النزيه الذى تلعبه تركيا فى المفاوضات بين سوريا وإسرائيل». وخلت كل اللقاءات الحميمة بين النظامين من أى إشارة أو لمحة أو همسة عن لواء الإسكندرونة السليب، ولم يثر ذلك أى مشاعر لدى الإخوة القومجيين فى سوريا ومصر، لكن الصحافة فى إسرائيل لم يفتها الأمر وبادرت بعقد مقارنة بين لواء الإسكندرونة الذى اغتصبته تركيا وهضبة الجولان التى تغتصبها إسرائيل، وفى لهجة لا تخلو من السخرية المرة دعت بعض المقالات هناك النظام فى سوريا إلى معاملة إسرائيل على قدم المساواة مع تركيا بعد أن قارنت بين الاحتلالين، لكن يبدو أن السياسة العربية لا تميل إلى مثل هذه المقارنات، وأنها تميل أكثر إلى التمييز بين احتلال «عدو» واحتلال آخر «صديق» أو حتى حليف، وفى الحالتين لا عزاء للأراضى العربية المحتلة. وتندرج على نفس القائمة وفى السياق ذاته الحالة الإيرانية الاحتلالية، التى يلفها غبار خماسينى كثيف من التشويش والالتباس رغم وضوحها الصارخ الذى لا يقبل التأويل أو المراجعة، إذ هناك ما يكفى ويزيد من الوقائع المادية التى تبرهن على الدور الاستعمارى لإيران وعلى نزعتها الاستعمارية التوسعية التى تهدد باحتلال المزيد من الأراضى العربية. وهذا هو موضوع المقال المقبل.