للغابة مطار يتوسط بستان، تخرج منه فتصادفك عبارة ترحيبية (أهلا بكم فى الجنة). بين مطار العاصمة وقرية كاندالاما حوالى ثلاث ساعات، تمر خلالها بخضرة محتشدة لا تنتهى عبر طريق ضيق مخنوق، تشاهد على ضفتيه ملخص لكل ما على الجزيرة، بائعون، فتيات بعمر الورود بشعر طويل، عجائز يسيروا ضمن مجموعات، عربات تاكسى بثلاث عجلات، كلاب ضالة، حقول جوز الهند والأناناس والأرز والدخان، ومنازل خشبية رائعة متناثرة بين الأشجار لها بوابة رئيسية وليس لها أسوار فحديقتها الغابة بأكملها. فوق تلة تطل على بحيرة، حصل الفندق على إذن من الطبيعة لبناء طوابقه القليلة، البحيرة تحفها الأشجار والفيلة والقرود ومختلف أنواع الزواحف وأشهر الأفاعى. هكذا تلتف الغابة حول كل مياه وبناء وتتمادى بالالتفاف لتحيط بجزيرة سريلانكا وصولاً لحدودها المائية. ليس للفندق جدران كاملة، فالمبنى الدخيل على الحديقة الإلهية لن يجرؤ على بناء ما يعكر صفو الحرية، وحدها الغرف لها أبواب وجدران زجاجية تطل على البحيرة، تبدو الغرف وكأنها معلقة بين الأغصان، ويمكنك رؤية صخور ضخمة وجذور أشجار طويلة مكشوفة متدلية ومتعانقة تتجه لتغرس فى التربة أمام غرفتك دون فاصل عنها، وفى المساء ستحاول جاهدا رؤية ما يحدث فى العتمة فالأنوار غير ساطعة. فى الليلة الأولى: إحدى الزواحف تسير بالممر، فكرت بالعودة إلى المطار، ماذا يجبرنى على الابتعاد عن الحضارة والمجىء إلى غابة مخيفة؟ أغلقت الشرفة جيداً. إنه لمن المخجل التصريح عن بغضك للزواحف التى تتنزه فى الفندق، مثلما فعلت، تذكر أنك الزائر فى موطنها لا العكس. أن تعيش مع الطبيعة يعنى أن تتصالح مع الطبيعة أولاً قبل أن تقرر هجرة المدنية ولو مؤقتاً. والطبيعة لا تطلب الكثير، لا تطلب شيئاً أبداً. توازن بين الكائنات، حياة نقية لم تدنس وملائكية بشرية لم تتعولم. الآن.. أكتب من على الشرفة المكسوة بالأغصان، أمامى قرد يراقب ما أفعل. آمل ألا يكون هناك ثعبان يشاركنا اللحظة أيضاً، وإن يكن، فالثعابين كأنها جاراتك، حتى الكوبرا تتبختر وهى تقطع الطريق أمامك.. ليس لك أن تتأفف فأنت الدخيل على حديقتها، والثعابين لن تؤذى مثلما يؤذى الإنسان. المكان خال من مخاوف المدينة حيث تخشى الحوادث، فقدان الوظيفة، السمنة، عمليات التجميل، تسديد فاتورة ماركة ثمينة، مشاكل عائلية، أسعار البورصة، يحيطك القلق وتجتر البسمة اجتراراً. فى الغابة السيريلانكية الجميع يبتسم، لا أحد يشكو، فكيف يبتسمون؟ الحياة المتواضعة، معجزات الإنسان الغائبة، هجمات التآميل التى أنهكتهم، ويبتسمون. المزارع يومئ بابتسامة والعاملة الطاعنة تكنس الفضلات ولا تشكو الحال بل تحييك وتضحك ملء شدقيها كأنها تملك العالم، والشابة المبتسمة بخجل ترتدى ملابس لا تحمل طابع بآلاف الدولارات، ولا تنافس قريناتها بقدها المشدود، فلم يدخل المصممون شروطهم بعد على أجساد نساء الجزيرة. هناك علاقة بين البساطة والبسمة، كيف يبتسمون؟ ألهذا لم تكتب عند بوابة المدينة عباراتنا العربية الآمرة (ابتسم فأنت فى...) لأن البسمة موجودة فى الأصل؟ فى الجنة، محظوظة أن أعيش الجنة، بين أناس عملوا أو سيعملوا فى منطقتنا يوماً. العاملات المنزليات المضطهدات قادمات من الجنة. والعاملون الوافدون الذين يشار إليهم بكتلة الغباء، قادمون من الجنة. حقيقتهم أنهم لم يتعرفوا بعد على مناخ وحيل الطاحونة الإنسانية الجميلة الوسخة المسماة (مدنية). - ليس أجمل من دخول مكان لا تعرف به أحد ولا أحد يعرفك، لا تربطك به أى علاقة، أرافق فقط روح صداقة صافية، وهكذا تنقطع صلتى مع العالم العصرى بحسنه وقبحه. الأرض العذراء لطالما ألهبت مخيلة المستكشفين، وأرض سيريلانكا ليست كبقية الجزر التى حولها الإنسان إلى مراكز تجارية سياحية مزيفة مثل عواصمه الكبرى. سيريلانكا باقية على طبيعتها الأولى. حالة استرخاء واسترداد لإنسان يحيا حراً دون عوازل وأبراج، يستنشق أوكسجيناً حقيقياً دون ملوثات وغازات، ترتدى ملابس بسيطة فجمالك سيظهر دون إضافات، تعود للتنزه والتأمل، تسهر مرغماً لترى النجوم وإشارات مضيئة عجيبة تعبر السماء، وكيف تنم وأنت تذكر مشهد سماءك المحجوبة بغيوم التلوث والآهات؟ أسرح فى المشهد الاستوائى. لا أتلقى أى اتصال يمكنه أن يذكرنى بالحضارة، بهيئات حقوق الإنسان، بمدافعين كاذبين عن الإنسان، بنداءات عائلية لحضور التجمعات، بمعجبين. لا شىء يساوى الناى والسلام. كاتبة سعودية [email protected]