أثارت مقالتىّ الأخيرتان عن البابا شنودة، والمُفتى، والأقباط، والإخوان المسلمين، والحُب عبر سيناء... ردود فعل طريفة من القرّاء، الذين استجابوا إلكترونياً. ■ فأحد القرّاء المصريين المسلمين فى كندا، لا يعجبه لا فتوى د. على جُمعة عن جواز تغيير المسلم لدينه، عملاً بالنص القرآنى، لكم دينكم ولى دين. ولا يعجبه وصفنا للمُفكر الإسلامى الكبير جمال البنا «بالمُستنير»، ولا يُصدق أن مسلمة ومسيحياً يمكن أن تنشأ بينهما صداقة بريئة! أى أنه يُشاطر ضابطى شرطة سيناء سلوكهما المُتعصب... ولكنه لا ينسى مع ذلك أن يقول فى نهاية رسالته، إنه ليس مُتعصباً بالمرة... وأن أعز أصدقائه هم من الأقباط! ■ ولا تختلف عن المسلم الكندى كثيراً، مسلمة أمريكية مصرية، ترفض رفضاً باتاً أن يكون للأقباط حصة معلومة (10% مثلاً من مقاعد المجالس المُنتخبة، أسوة بالعمال والفلاحين والنساء). وهى أيضاً لا تنسى أن تؤكد فى رسالتها أن أعز صديقاتها فى مرحلتى الطفولة والصبا، بحى شُبرا القاهرى، كانت قبطية، وكانتا تمسكان يداً بيد فى الذهاب والإياب من منزلهما إلى مدرستهما يومياً. ■ وكنت بدورى قد درست ظاهرة التعصب عموماً، وفى الولاياتالمتحدة خصوصاً، خلال عقدى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وكعادة عُلماء الاجتماع والنفس الأمريكيين، هناك ولع شديد «بالقياس»، لدرجة أن السلوك الذى لا يمكن قياسه، ينكرون وجوده. ومن ذلك الحب والكراهية، والتعاون، والتنافس، والصراع. وفى سياق دراسة هؤلاء العُلماء عن ظاهرة التعصب من البيض تجاه الزنوج، أو الأمريكيين الأفارقة، كانت عبارة «أن بين أقرب أصدقائى زنوجاً سوداً»، واتضح أنها ستار يخفى خلفه أو تحته تعصبا فعليا، وأن ترديد عبارة أقرب أصدقائى هم «زنوج» هى من قبيل التمويه النفسى الاجتماعى، فغير المتعصب لا يحتاج إلى ترديد هذه العبارة، والتى هى مصداق للقول المأثور «يكاد المُريب (أى المُذنب) أن يقول خذونى»!. المُدهش فى كل من المسلم المصرى الكندى، والمسلمة المصرية الأمريكية أنهما يعيشان فى مجتمع ديمقراطى مفتوح، مُتعدد الأديان واللغات والثقافات، ويحتفى بالاختلاف والتنوع. وقد شهد الأمريكى والكندى نضالا طويلا من أجل المُساواة فى حقوق المواطنة، لكل من يعيش على أرضهما، بصرف النظر عن الجنس والنوع والدين واللغة والأصل القومى. وهو وهى قد استفادا ويستمتعان بثمرات هذا النضال، الذى لم يُشاركا فيه. لأنهما لو كانا قد شاركا فيه لكانا قد تخلصا من مشاعر التعصب والتمييز ضد الآخرين المُختلفين فى الدين، مثل الأقباط. ومن الذين علّقوا على مقال الأسبوع الماضى، أحد رجال القضاة، من المنصورة. وهو يُعاتبنى بتهذيب ورقة على ما يبدو له فى مقالاتى من تحامل على رجال الشرطة، واحتفائى بفتوى د. على جُمعة، ودفاعى الدائم عن الأقباط. وحقيقة الأمر أن دورى، كمُثقف ومن نُشطاء حقوق الإنسان، هو أن أكون صوتاً لمن لا صوت له، وأن أحاول دائماً أن أقول كلمة الحق فى وجه سُلطان جائر. وحينما أفعل ذلك فلست باحثاً عن شعبية أو ثروة أو سُلطة. بل كثيراً ما تُكلفنى الشهادة أو الدعوة التضحية بما أعتز به مثل صحتى وحريتى ولوعة الفراق عمن أحبهم من الأهل والأصدقاء والطُلاب. أما المهندس أمجد ناصف، الذى يعمل بالإمارات، فبعد أن أبدى إعجابه بما كتبناه فى الأسبوع الماضى، يقول إنه يُتابع ويقرأ مُعظم ما أكتبه. ورغم استحسانه لمُعظم ما أكتب، إلا أنه تعجب، حيث إن كل مقال على حدة يتناول موضوعاً، أو فكرة، أو قضية، فهل هناك تصور عام، أو مشروع مُتكامل للإصلاح فى مصر، أو حتى للوطن العربى كله؟ وإجابتى، هى أن هناك مثل هذه التصورات والمشروعات، التى طرحها آخرون. وقد شاركت فى بعضها، مما تبناه مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت، أو منتدى الفكر العربى فى عمان، أو مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام فى القاهرة. ورغم أن كلا من هذه التصورات يُحاول أن يكون شاملاً، من حيث تعدد جوانب الإصلاح من التربية إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى السياسة إلا أن كل مشروع كانت له نقطة انطلاق، هى فى نظر صاحب المشروع بمثابة القاطرة، التى تجُرّ بقية عناصر المشروع من خلفها. وفى التاريخ المصرى الحديث أى خلال المائتى سنة الأخيرة مثل هذه المشروعات التى تجاوزت التصور النظرى إلى التطبيق العملى على أرض الواقع. ولعل أبرز هذه جميعاً مشروع محمد على لبناء دولة حديثة فى مصر، لتكون قاعدة لإمبراطورية عربية، ترث الإمبراطورية العثمانية (1805-1840). ثم كان هناك مشروع لا يقل طموحاً لحفيده، الخديو إسماعيل، لكى يخلق من مصر دولة ومجتمعاً على الطراز الأوروبى. ثم فى القرن العشرين، كان هناك مشروعان، أولهما مشروع مصر الليبرالية الحديثة، كما تصورها وعمل على تشييدها زُعماء ثورة 1919. وكان رموزها فى السياسة سعد زغلول، وفى الاقتصاد طلعت حرب، وفى الثقافة طه حسين، وفى الفن والأدب أحمد شوقى وتوفيق الحكيم وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ونجيب محفوظ. وأخيراً كان هناك المشروع الناصرى الشعبوى لثورة يوليو 1952، والذى كان شعاره «الكفاية والعدل». فحاول زيادة الإنتاج من خلال مشروعات صناعية عملاقة، وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الإصلاح الزراعى وتأميم الشركات الكُبرى. وقد أنجز كل من هذه المشروعات قدراً من طموحاته، ولكنه ضُرب فى النهاية على أيدى قوى خارجية أحياناً، أو بسبب أخطاء داخلية كبيرة. ومن واقع هذه التجارب التاريخية المصرية، وما يحدث فى العالم من حولنا، فإن المشروع الأقرب إلى عقلى وقلبى هو المشروع الليبرالى لثورة 1919، والذى كانت أهم شعاراته: الدين لله، والوطن للجميع، والاستقلال مع الدستور. وفى ترجمة عصرية يعنى ذلك أن «الديمقراطية هى الحل». وهو ما اهتدت إليه 120 بلداً من مجموع 180 بلداً، أى ثلثا بُلدان العالم الأعضاء فى الأممالمتحدة. ومنها بُلدان إسلامية (مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا) وأفريقية (مثل السنغال وجنوب أفريقيا ونيجيريا وغانا) وأسيوية (مثل الهند وكوريا واليابان وتايوان وتايلاند)، ولاتينية (مثل البرازيل والمكسيك والأرجنتين وشيلى). وكانت مصر من أسبق بُلدان العالم فى الأخذ بالديمقراطية مع مشروع الخديو إسماعيل، حيث كان لها دستور وبرلمان مُنتخب، فى ستينيات القرن التاسع عشر، ثم مرة أخرى مع مشروع ثورة 1919 (1923-1953). ولكن الاحتلال البريطانى ضرب مشروع الخديو إسماعيل، والعسكر ضربوا مشروع 1919.. فلا حول ولا قوة إلا بالله. [email protected]