بعد أن ضاقت بهم بحيرات مصر وبحرها المتوسط، كالآلاف غيرهم من الصيادين الذين أضناهم البحث عن رزق البحر وطعامه، قرروا، رغم تحذيرات أهاليهم وكبار الصيادين، أن يطرقوا باب الصيد فى مجرى الملاحة الدولى، المياه الإقليمية لم تعد تسعهم، مع الازدياد المضطرد فى أعداد الصيادين، والبحيرات أصابها العقم بعد أن خاصمتها يد الرعاية الحكومية، ومن ثم فلا ملاذ إلا الإبحار فى مناطق جديدة، قد لا تتحملها مراكبهم الصدئة، ولكنها قد تفتح أمامهم أبواب رزق كثيرة تغنيهم عن أيام البعد الطويلة التى قد تمتد إلى شهور. لم يكن «العربى محمد»، هذا الشاب الذى بدأ لتوه عقده الرابع، يتصور، وهو يترك رضيعه الذى طال انتظاره، حمله بعد الحفل إلى البحر رغم برودة الجو وبلل بشرته الندية بمائه المالح، وكيف لا وهذا هو «تعميد» الصيادين، الذى يحميه من غدر البحر وانقلاباته وتجعله قادر على ترويضه فى أعتى موجات تمرده، لم يظن للحظة أن يمر 150 يوما دون أن يرى طفله للمرة الثانية، تركه بعد احتفال لائق من العائلة بابنه البكرى، حمل أغراضه وودعهم، لكنه لم يطل الوداع، فهى رحلة كغيرها من التى اعتاد عليها الصيادون. بدأت الرحلة منذ نحو 5 شهور عندما انطلق المركبان «أحمد سمارة» و«ممتاز 1» للصيد فى عرض البحر، تحرك كل واحد منهما على حد فى عرض البحر، الأول من مدينة السويس والثانى من دمياط، 10 أيام هى المدة المحددة للرحلة، تأكد قبطان كل مركب، قبل أن يعطى إشارة البدء ويتلو أدعية الأبحار، من إعداد مؤن الرحلة من ماء وطعام ووقود. يروى السيد صبحى، أحد بحارة المركب «ممتاز 1»، تفاصيل بداية الرحلة: «بعد أن قضينا 3 أيام فى عرض البحر ساءت الأحوال الجوية، وجرفنا التيار إلى منطقة لم نعلمها، وفقدنا حينها سبل الاتصال بالميناء، لنفاجأ بعدها بزورقين يقتربان منا، ويطلبان من قائد المركب التوقف حتى لا يطلقوا علينا صاروخاً، أدركنا حينها أننا وقعنا تحت يد قراصنة صوماليين، وبعد عدة محاولات للهرب، اقترب زورقان آخران لنحاصر بأربعة زوارق مسلحة، فاضطررنا للوقوف، وصعد عدد من القراصنة إلى المركب يحملون فى أيديهم أسلحة آلية يصوبونها نحونا، ثم كبلونا وجمعونا فوق سطح المركب عدا القبطان الذى تركوه ليقود السفينة إلى حيث يريدون. وأضاف صبحى: بعد نصف ساعة توقف المركب مرة أخرى، وشاهدنا عددا من السفن المحتجزة هناك، كنا نخاف كثيرا أن يصاب القبطان بأذى، ولكنه صعد بعدها وهو مقيد اليدين ليجلس إلى جوارنا، مرت نصف ساعة أخرى ثقيلة، وصعد قرصان صومالى وقدم نفسه إلينا على أنه صاحب الرتبة الأعلى بينهم، وقام بتلاوة بعض التعليمات، أهمها عدم التحدث فى الهاتف دون إذن، وهو ما أعطانا بصيصاً من الأمل فى التواصل مع ذوينا، وشدد على خطورة التفكير فى الهرب، وبدا من لهجته أنه ينتمى إلى إحدى القبائل الصومالية التى تتحدث باللغة العربية، وختم كلامه طالبًا من بعضنا الاتصال بأسرنا فى مصر لنبلغهم بالاختطاف وإخطار المسؤولين المصريين ليتم الاتفاق معهم على مبلغ الفدية مقابل الإفراج عنا. مر اليوم الأول على صيادى المركب «ممتاز 1» تتناوبهم مخاوف من تعامل القراصنة معهم بعد أن يتلقوا الفدية من المسؤولين المصريين، بينما ناوبت البعض مخاوف أن تتخلى عنهم الحكومة، ويصبحوا طعاما لأسماك جاءوا ليصيدوها، حاولوا يأسا أن يناموا فى هذه الليلة، كانت الأسلحة مصوبة إلى رؤوسهم، استدعوا النوم هرباً من هذا الواقع المخيف، أغمضوا أعينهم مستجدين الراحة حتى ولو للحظات يغيب فيها الوعى عن هذا الكابوس الرابض على صدورهم، لكن الصباح لم يكن أكثر أمانا من الليل، فالبنادق نفسها والقراصنة أنفسهم والخوف يزداد لحظة بعد لحظة، إلا أن البعض نجح فى الاتصال بأهله دون علم القراصنة. فيما جلس البعض يبكى ويمنى نفسه بأن يتم تحريرهم سريعا ودفع الفدية من قبل المسؤولين فى مصر، وكانوا يلجأون إلى استخدام بطاريات أجهزة الاتصال فى شحن أجهزة المحمول التى كانوا يتداولونها بينهم ليلاً، فيما يتظاهر البعض بتلاوة القرآن أو الدعاء بصوت مرتفع، كنوع من التمويه على أصوات التليفون. يروى العربى محمد تفاصيل اليوم الثانى فيقول: شاهدنا سفينة أخرى تدخل إلى المنطقة، وعلمنا من الكلام المنقوش عليها أنها مصرية، وبعدها تلقينا اتصالاً هاتفيًا من أحد المسؤولين بوزارة الخارجية، أخبرنا فيه بأنه علم بالواقعة من الأهالى، وبعد انتهاء المكالمة توجهت إلى أحد القراصنة وأخبرته بما جاء فى المكالمة وأنه يرغب فى معرفة الفدية المطلوبة فطلب منى العودة إلى مكانى والانتظار لأن التعليمات لم تأت من القيادة بعد لتحدد قيمة الفدية، وأنه فى الموعد المحدد سنعرف التفاصيل كلها. وأضاف العربى: كان القراصنة يحملون السلاح طوال اليوم على مدار الأسبوع الأول واعتمدنا فى غذائنا على السمك الذى كانوا يسمحون لنا باصطياده ويحصلون هم على جزء وفير منه، وبعدها كنا نعتمد على الوجبات التى كنا نحصل عليها منهم، وقد كانت وجبة واحدة هى نصيب الفرد منا طوال اليوم، مكونة من كمية من الأرز الأبيض ومزيج رائع من الحشرات. الأمر لم يختلف كثيرا داخل مركب «أحمد سمارة» الذى تم خطفه أيضا، قال محمود أمين، صياد: القراصنة الصوماليون عبارة عن «غنم سود»، الهمجية والتخلف هما السمة الأولى لديهم، كنا ننام على السلاح ونصحو على السلاح، الخوف كان يتملك من الجميع، لم يشغل بالى وقتها سوى أبنائى الخمسة الذين تركتهم وحدهم مع والدتهم فى الدقهلية، كنت أخاف كثيرًا خاصة أنى لم أترك لهم أى مصدر رزق ليصرفوا منه، الموت كان يحيط بالجميع والضرب كان نصيبنا الأكبر من القراصنة، كانوا يصرخون فى وجوهنا ويطلبون منا إحضار الطعام لهم من السمك الذى قمنا باصطياده قبل الاختطاف. بعد شهر تقريباً اقترب المركبان المختطفان من بعضهما، ووقف الصيادون يتبادلون القصص، ليحكى كل منهم عن مأساته التى كانت تتشابه، الاتصالات بين الأهالى والصيادين لم تنقطع، كل منهم يخطف دقيقة ليطمئن على أسرته ليغلق الهاتف سريعا حتى لا يشاهده القراصنة.أيضا اتصال يومى بين الصيادين والمسؤولين فى مصر لسؤالهم عن الفدية المطلوبة وكيف سيتم دفعها للقراصنة، لتأتى الإجابات – حسبما يقول عبد السلام عمارة - «اصبروا شويه لسه بنحضر فى الفلوس». لم تكن المعاملة التى يتلقاها البحارة المصريون على أيدى القراصنة لائقة بأى مستوى، يتذكر عبدالسلام تفاصيل «الرحلة المشؤومة» عندما شعر بالموت يقترب منه حين طلب منه أحد القراصنة إحضار ماء من البحر له كى يستحم وعندما رفض اعتدى عليه بالضرب بالسلاح الذى كان يحمله، لينفذ بعدها أوامره حتى لا تنتهى حياته. مر الشهر الثانى على الاختطاف لتقترب المهلة المتبقية على دفع الفدية من الانتهاء، حتى جاء اليوم الأخير ليشعر جميع الصيادين بأن حياتهم انتهت - الكلام مازال على لسان العربى محمد - وانهمرت الدموع وعندما اتصلنا بالمسؤول المصرى بوزارة الخارجية رد علينا «حاولوا تمدوا المهلة شوية»، ليقترب قائد السفينة من القراصنة ويخبرهم بما حدث وحاول مد المهلة، ليهلل بعدها القائد ويخبرنا بأن المهلة مستمرة شهراً آخر. بعد مرور الشهر الثالث بدا القراصنة يطمئنون إلى الصيادين وفكوا قيودهم وتركوههم يتحركون بحرية فى المركب، قال العربى: كنا نأمل أن يتم دفع الفدية سريعا لنعود إلى بيوتنا. ولكن بعدها بدأت الاتصالات الهاتفية مع الشيخ حسن خليل ليتم الاتفاق على الخطة معه على الهروب.وعلى إشارة لبدء الهجوم من الركبين للهروب فى وقت واحد. يوم الهروب لم يختلف كثيرًا عن قبله، استيقظ الجميع من النوم فى الصباح، وبعد أن سمعوا صوت إشارة الهجوم وهى «الله أكبر» هجموا على القراصنة قبل أن يمسكوا أسلحتهم ونحوا فى الاستيلاء عليها، ليبدأوا بعدها رحلة العودة إلى مصر، بعد أن قضوا كابوسا طويلا استمر أكثر من 4 شهور ليعودوا إلى الحياة من جديد. فور وصولهم إلى المياه الإقليمية المصرية، استقبلهم عدد من الزوارق تحمل ضباطاً من جهة سيادية، قاموا بتسليمهم ملابس رياضية وأدوات حلاقة، رفض البعض استخدامها، وفضلوا لقاء ذويهم بالملابس نفسها التى غادروا بها وبلحى طويلة، ووفقا لما قال بعض البحارة، فإن الضباط طلبوا منهم عدم الحديث عن أى دور للسلطات المصرية عدا الخارجية، إلا أن البعض أفرط فى استهجان ما قامت به السلطات المصرية، وقال إنها جاءت فقط لتتسلم القراصنة خوفا من أن نتسبب فى مشكلات دولية، وأن استجواب القراصنة من قبل الأهالى يعتبر تهديدا للأمن القومى، لذا شددوا عليهم عدم ذكر أى تفاصيل عنهم أو حتى أسمائهم ونوعية السلاح الذى كانوا يحملونه.