لا يمر يوم على مصر إلا وتتسع رقعة التهميش الاجتماعى والتفاوت الطبقى، فتجد فئات مستورة كانت تصنف على استحياء على أنها من «الطبقة الوسطى» قد تهاوت إلى القاع السحيق، لتستقر بعيدًا تحت خط الفقر، بعد أن فقد عائلوها القدرة على تلبية الاحتياجات اليومية المتزايدة والملحة لأسرهم بالوسائل المشروعة التى تقوم أساسًا على تحصيل عائد مناسب للجهد المبذول، سواء كان ذهنيًا أم عضليًا، وفى المقابل تصعد إلى السطح، فى زمن قياسى، فئات الكسب السريع الذى ينجم عن أعمال غير مشروعة، وهامشية، وطفيلية، لا تضيف أى «قيمة» تذكر للاقتصاد الوطنى، بل تجور عليه، وتنهب منه، لتنتفخ جيوب فئة ضيقة جدًا أكثر وأكثر، بما قد يجعل «مجتمع النصف بالمائة» فى خاتمة المطاف «مجتمع الواحد فى الألف» وربما أقل «ممن يكون بمقدورهم أن يتعاملوا بصفاء بال مع متطلبات المعيشة، من غذاء وكساء ودواء وإيواء وترفيه. أمام هذا الوضع الذى ينتج خللاً فى السوق يوازيه انحدار فى القيم الاجتماعية الأخلاقية وفقدان الإحساس بالمصلحة العامة، أو الشعور بالأمان إزاء المستقبل، يسعى كل فرد مسؤول أسريًا إلى تحصيل ما يسد حاجته وذويه، بشكل مفرط فى الأنانية، فى لا مبالاة بما يرتبه القانون من واجبات وما يجرمه من تصرفات ودون توقف أمام أى سلبيات تنجم عن السلوكيات غير المشروعة، إذ إن هناك مبررًا طاغى الحضور دومًا للإقدام على تقاضى الرشاوى، والتردى فى أعمال الاختلاس والتربح من المناصب والمواقع فى الوظائف العامة، حتى لو كانت من الدرجات البيروقراطية الدنيا، أو البسيطة، ألا وهو بلوغ حد الكفاف، وإلا الوقوع فى فخ الهلاك المحتم حين يعجز الناس عن ملء بطونهم. فحين يصل الفرد إلى المستوى الذى تتساوى عنده جميع المسارات والنتائج، مع الشعور العام بوصول الفساد إلى النخاع، تتصاعد درجة المخاطرة، فى شقها الردىء، عند أعداد غفيرة من الناس، وبالتالى يقدمون على تحصيل الأرزاق عبر وسائل غير قانونية بأعصاب باردة وضمير مستكين، فى سعى دائب لموضع قدم فى الزحام، خوفًا من أن تدهسهم أقدام الصاعدين سريعًا إلى قمة المجتمع، والذين يتحكمون فى الجزء الأكبر من حركة السوق والأسعار، ويرسمون ملامح الاقتصاد الوطنى، على أكثر من حد. هذا السلوك لا يقتصر على المنخرطين فى صفوف الجهاز البيروقراطى المصرى المتورم، بل يمتد ليطوق حتى أصحاب المهن الحرة بمختلف أنشطتها، والأعمال الهامشية والموسمية، فيرتب محاولات لا تتوقف فى سبيل إحداث أى حال من «التوازن» أو الترميم» الطبقى، حتى لو كان طفيفًا. هنا يصطف أفراد المجتمع كل حسب موقعه فى السلم البيروقراطى أو نوع المهنة التى يحترفها فى طابور طويل، وكأن كل فرد قد وضع يده فى جيب من يقف أمامه، وترك فى الوقت نفسه جيبه، لمن يليه، فى استمراء لحال السرقة الجماعية، فى بلد معروف تاريخيًا عن أهله أنهم طيبو القلوب ونظيفو الأيدى، فالمصريون اعتادوا طيلة القرون الغابرة العطاء، لكل من يفد إلى بلدهم، دون انتظار مقابل، وكم سرقت الأمم من خير مصر، من دون أن تفنى ثرواتها. بالطبع فإن هناك استثناءات من هذه الحال، لكن هؤلاء المبتعدين عن التردى فى السرقة العامة، لتعفف أو بعض ضمير أو خوف من الله أو إحساس جارف بالمصلحة الوطنية، قد يتقلصون بمرور الأيام، مع استمرار فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وفى ظل ارتخاء الدولة المصرية وتآكل قدرتها على سد احتياجات الشعب من تموين غذائى وتعليم وصحة...إلخ، وكذلك فى ظل غياب هيبة القانون، وتقديم المسائل الأمنية على ما عداها، والارتكان إلى استمرار النظام السياسى الراهن بأى طريقة واعتبار هذا غاية عظمى ومقصدًا أخيرًا، مهما رتب من تبعات مؤلمة، ومهما ألقى من حمولات ثقيلة على كاهل المجتمع، فى مصادرة على المستقبل لحساب الحاضر، وعلى الغد لحساب اليوم، واليوم فقط. وقد وصلت الحال إلى أن البعض طالب بتقنين الرشوة، ومادامت قد فرضت نفسها بهذا الزخم، وتلك القوة، على المجتمع، بجميع شرائحه، لكن هذا المطلب الهزلى المنطوى على يأس جارف من إصلاح الحال، لن يجد صدى بالطبع، إلا أنه يفتح الباب أمام تساؤلات عن الهوة الواسعة بين النصوص القانونية التى سنتها مؤسسات وشرعها فقهاء والواقع الذى ينحى هذه النصوص جانبا ليفرض قوانينه الخاصة، المشبعة بالفساد والقدرة الكاسحة على الإفساد، بتسويق مبررات وذرائع، يتراكم وجودها وتقوى حمولاتها يومًا بيوم وسط انعدام هيبة القانون. وما يزيد الطين بلة هو غياب القدوة فى حياتنا العامة، فالصورة الذهنية عن الغالبية الكاسحة للمبرزين من قادة العمل السياسى والاقتصادى والاجتماعى والبيروقراطى سلبية، إذ يرى العامة أن الجميع فاسدون إلا من يثبت بحقه عكس ذلك، وأن المطالبة بنظافة اليد والطهارة والحرص على المصلحة العامة، لا تعدو نداء من «اللصوص الكبار» إلى أتباعهم أو مقلديهم من «اللصوص الصغار» ولذا لا يجد هذا الخطاب صدى، لأنه يفتقد أى مصداقية، ولا يبقى منه إلا صدى صوت يضيع فى الفراغ الكبير الذى يغلف حياتنا التى يعشش فيها الاستبداد والفساد.