صدر لخالد الخميسى مؤخرا عن دار الشروق روايته الأولى «سفينة نوح» التى تتناول الظاهرة المفجعة لهجرة المصريين الجماعية خارج مصر. وربما يتصور القارئ من موضوع الرواية أنها كتابة مباشرة أو تتخذ منحى صحفيا لكن من الواضح أن الخميسى قد فرض على نفسه تحدى خوض معركة الرواية بشكل جدى. ما احترمته فيه هو أنه لم يستسلم لنجاح كتابه الأول «تاكسى: حواديت المشاوير» بأن يعيد استخدام نفس خلطة النجاح من استخدام للغة الشارع المصرى البسيطة الذكية إلى الحواديت السريعة المتتالية وتقصى تحولات المجتمع المصرى فى العقود الأخيرة، لكنه لجأ إلى بناء روائى يجمع خيوط حيوات الشخصيات المتعددة فى نسيج روائى كاشف لأحوال الوطن. تتخذ الرواية بنية تبدو بسيطة مع بدايات القراءة، ألا وهى تكريس الفصول المتتابعة لشخصيات هاربة من الوطن أو حالمة بالهروب أو النجاة، من أحمد عز الدين الشاب المتخرج فى كلية الحقوق والعاطل طبعا عن العمل إلى حبيبته هاجر التى لا تحلم إلا بحبيبها لكن الأمر ينتهى بها فى بلاد الأمريكان مع زوج فرضته عليها قسوة الظرف الاجتماعى إلى رجل الأعمال والطبيبة القبطية الثرية الناجحة وحتى سمسار الهجرة وغيرها من الشخصيات الأحد عشر التى قفزت إلى السفينة أو فى الطريق إليها. لكن قرب انتهاء الرواية تتبدى بنية أكثر تعقيدا تربط كل الشخصيات بعضها بالبعض، فالكل فى مركب الوطن متكاثر الثقوب والكل يحلم بالقفز إلى سفينة نوح. تُعنى الرواية فى جانب منها بالتوثيق للمتغيرات الاجتماعية وما استتبعها من تغيرات إنسانية فى الشخصية المصرية. فخالد الخميسى حريص أن يزودنا داخل النسيج الروائى بإحصاءات وأرقام وتواريخ وأحداث واقعية كانت متزامنة مع حركة شخصيات الرواية أو مشكلة دافعا لها للهروب. وبالرغم من هذا الجانب التوثيقى إلا أن «سفينة نوح» لم تنزلق إلى فخ المباشرة وإلقاء محاضرات على القارئ. وقد خفف من وطأة التوثيقى حيوية الشخصيات وخفة ظل السرد من ناحية والاعتماد على الانتقال المستمر بين مستويات مختلفة للغة، فللراوى عربية فصيحة تعلو وتهبط حسب الحدث وتتلون بملامح الشخصيات المحكى عنها ولكل من الشخصيات صوت يتوجه به إلى القارئ مباشرة فى عامية نابضة وعاكسة لملامح كل شخصية. فالفارق واضح بين لغة الشاب أحمد عز الدين حين يقول «أنا كمصرى وبحب بلدى وبحب الشارع اللى أنا اتربيت فيه شايف إن أنا لازم أسافر خدمة لبلدى...»، ولغة سناء مهران العاهرة الحالمة بالسفينة التى ستقفز إليها على أكتاف سمسار الهجرة حين تقول «يقولوا لى ده المنوفى لا يلوفى لو أكلتيه لحم كتفك وفخدك وحتة من كلاويكى، وانت يا بت ياسناء مقدمة معاه السبت والأحد والاثنين، هياكل جتتك وينسى، ولا حيطلعك حتة وحيسيبك تولولى فى القرافة...». كتب الخميسى «سفينة نوح» بخلفية محلل سياسى واجتماعى ولكن بقلم قادر على القفز فى برارى الجنون الروائى. فبعد أن يأخذك النص من شخصية إلى أخرى، هى شخصيات تعرف أسماءها للمرة الأولى لكنك قابلتها فى الحياة أو أنت شخصيا تحمل أوجها منها، يدخل بك إلى شخصية سناء مهران ابنة سعيد مهران بطل رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب». ويجعل منها خالد الخميسى عاهرة تأخذها الأحوال إلى دبى حيث سوق العمل هناك أفضل بالتأكيد من السوق المصرية. ربما لا يجب أن نصدق خالد الخميسى فى كلمة الغلاف الخلفى للرواية حين ينبهنا «لا تدع السفينة تفوتك». الحقيقة أن «سفينة نوح» لا تحرض على الهروب وإنما تعرى الظرف العام الذى جعل الجميع يحلمون بالسفينة.