منذ سنوات يتردد سؤال أساسى كلما هلت ذكرى ثورة يوليو، وهو: ماذا تبقى من الثورة؟ وبعدها ينطلق من يطرح السؤال للإجابة عنه، كل حسب انتمائه السياسى، أو هواه الشخصى، ومن له رؤية مستقلة ومن قرأ ودرس وبحث فعلاً، ومن كل حصيلته قراءة بعض مقالات لهذا أو ذاك، ولم ينتبه أحد إلى أن السؤال من أساسه خاطئ، وبالتالى إجاباته سوف ينالها قدر من الخطأ، لأننا نقيم نظاماً واحداً نتج عن الثورة، بينما الواقع أن هناك ثلاثة أنظمة أفرزتها، نظام الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر، ونظامى الرئيسين السادات -عليه رحمة الله- ومبارك، والأول يختلف تماماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً عن الآخرين، اللذين يتشابهان فى الكثير. وبالتالى فالمنطق يقول إن من الضرورى مراعاة هذا الاختلاف، حتى لا نظلم نظاماً بأن نحمله أخطاء غيره، مثلما ظلم البعض الكثير من زعامات وطنية قبل الثورة، عندما نظروا إلى مرحلتها وكأنها شىء واحد، فلم يفرقوا بين الزعيمين خالدى الذكر سعد زغلول ومصطفى النحاس، وحزب الوفد، وبين فساد وديكتاتورية القصر الملكى والملك فؤاد وابنه فاروق وأحزاب الأقليات وقياداتها العميلة للقصر، بل ظلمنا البعض من قيادات أحزاب الأقليات كانت لهم أدوار وطنية، والغريب فى الأمر أن بعض قيادات الوفد حالياً يتحدثون عن فترة ما قبل الثورة وكأنها واحدة دون أن يفرقوا بين مكوناتها، الوفد صاحب الأغلبية، والقصر، والأقليات، وحملوا أنفسهم أوزارها رغم أن الحزب كان بعيداً عنها، وأصبحت تسعدهم جداً أى هجمات ضد الثورة حتى وإن كانت تنطوى على إساءة لتاريخ حزبهم وقياداته. ومن أعجب وأجرأ الكتابات ما أتحفتنا به الطبيبة لميس جابر التى قفزت لتكون مؤرخة لما قبل الثورة، وبعدها قدمت وثائق ومعلومات لم يسبق لمؤرخ مصرى أو أجنبى للعهدين أن عرف عنها، فمثلاً اكتشفت أن الإخوان المسلمين هم الذين اغتالوا مؤسس جماعتهم وأول مرشد لهم وهو حسن البنا، وهم الذين حاولوا اغتيال الزعيم خالد الذكر مصطفى النحاس، إذ قالت ذلك بالنص فى جريدة «روزا» فى 18 أكتوبر 2007. أى أن كل المؤرخين كذبوا عندما أكدوا أن محاولات اغتيال النحاس من تدبير الملك فاروق بواسطة تنظيمه الحرس الحديدى، وأن صديقنا المرحوم فؤاد سراج الدين وصديقنا المرحوم إبراهيم فرج كذبا فى ذكرياتهما السياسية التى أعددتهما وصدرا فى كتابين، لا علىّ فقط، وإنما على الدنيا كلها باتهام الملك الإخوان الذين اغتالوا البنا أيضاً بقولها بالنص: «والجريمة الأخيرة هى اغتيال حسن البنا وإن كنت أظن أنها من داخل الإخوان أنفسهم بواسطة رئيس الجناح العسكرى للإخوان فى هذا الوقت». أى أن «المحظورة» اغتالت مؤسسها وألصقت الحادث بالملك المظلوم فاروق. أما السر الآخر الذى كشفته بعد الثورة فجاء فى «الوفد» يوم الأربعاء الماضى.. وهى تتحدث عن شعار تحقيق العدالة الاجتماعية. إذ قالت بالنص: «أما العدالة الاجتماعية فقد تم تفصيلها على مقاس الضباط وعائلاتهم وقرايبهم وطبقت عليهم العدالة فعلاً لأنهم هم الشعب المقصود بالعدالة الاجتماعية وليس غيرهم». ما هذا المستوى من الجرأة والأمانة؟! على العموم فهذا هو الجانب الفكاهى من موضوعنا.. أما الجاد منه فهو الذين يتجاهلون حقيقة أن الإطاحة بالملك فاروق، وإنهاء حكم الأسرة الملكية.. كان مطلباً شعبياً جماعياً بعد أن وصلت الأوضاع إلى طريق مسدود لأنه منذ أول وزارة منتخبة عام 1924 برئاسة الزعيم خالد الذكر سعد زغلول باشا زعيم «الوفد» الممثل للأمة، والقصر الملكى من فؤاد، إلى ابنه فاروق وبمساعدة أحزاب الأقليات العميلة له مثل «الأحرار»، و«الدستوريين»، و«السعديين»، و«الكتلة الوفدية». وتلك التى ظهرت واختفت مثل «الاتحاد» و«الشعب».. سارت الأمور كالآتى: انتخابات حرة يفوز فيها «الوفد» باكتساح. وبعد أشهر أو عام أو اثنين يعزله الملك.. وتتم انتخابات مزورة.. أو يقاطعها «الوفد» تأتى بعملائه من أحزاب الأقليات.. لدرجة أن «الوفد» بقيادة خالد الذكر مصطفى النحاس بحث مرتين فى وزارة 42-1944 ووزارة 50-1952 خططاً لعزل الملك. وتفاصيل إحداها تسلمها المرحوم محمود سليمان غنام إلا أنه لم يصدر بها قرار لأن «الوفد» تخوف من مساندة الجيش للملك. وأنا هنا أتحدث عن شهادة فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج وزير الشؤون البلدية فى آخر وزارة وسكرتير عام حزب «الوفد» الجديد بعد عودته فى 4 فبراير سنة 1978.. ولأنه لم يشأ أن يقوم بعمل ضد «الدستور». وكانت المفاجأة أن الجيش الذى تخوف منه هو الذى أطاح بالملك، ولذلك ما إن أذيع النبأ حتى انفجر تأييد شعبى كاسح للثورة أو الحركة أو الانقلاب - اختر ما تشاء من أسماء ترضيك أو أنت مقتنع بها، وهذا الشعب هو أغلبية حزب «الوفد».. ولذلك كان من غير المتصور أن تقوم جماعة بهذه المخاطرة. وتنجح فيها وتفاجأ بالتأييد الشعبى الكاسح لها. ثم تسلم مقاليد الحكم لمن رفضوا أن يسبقوها بالعمل.. وباختصار فإن توحدا روحياً ووطنياً حدث بين الشعب والثورة.. وهذا سر شعبيتها حتى الآن .. هذا أولاً. وثانياً: إن هذا التوحد حدث بين الأغلبية الشعبية وعبدالناصر، بعد أن تم حسم الصراع، وعزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية حدث بسبب تطبيق سياسات كانت مطالب هذه الأغلبية قبل الثورة.. وهى باختصار العدالة الاجتماعية التى تضمن لها حياة «كريمة» وآدمية وتؤمن لها ولأبنائها مستقبلهم، وتنتشلهم من الفقر المزرى الذى كانوا يعيشون فيه، وأفقدهم الإحساس بالكرامة.. حدثت أخطاء كبيرة وكوارث كبيرة وصغيرة؟ نعم ولم تكن هناك ديمقراطية سياسية قائمة على التعددية الحزبية الحقيقية؟ نعم، لكن أحدًا لا يمكن أن يتسرب الشك إلى نفسه، بأن نظامه كان معبرًا عن مصالح الأغلبية الفقيرة والمتوسطة، واتخذ كل ما من شأنه لتأمينها، وهذا ما لن تنساه له الأغلبية على تعاقب الأجيال ووراثة الأحياء للأموات، يكفى عمل واحد، وهو التأمينات الاجتماعية والمعاشات، وكيف حفظ لنا ولأبنائنا حياتنا وكرامتنا، بمن فينا من يهاجمونه ويتهمونه بتخريب الإنسان المصرى. ولم يحدث فى التاريخ أن تنكر شعب لثورة أنصفته، ولزعيم عبر عن طموحاته ونفذ منها ما استطاع بإخلاص حتى وإن فشل، ومرة أخرى لا يجب طرح سؤال: ماذا تبقى من ثورة يوليو؟ وإنما: ماذا أنجزت كل من رحلة عبدالناصر والسادات ومبارك لمصر وأغلبية شعبها؟ وفى العدد القادم نستأنف الحديث عن صراعات الأجنحة داخل النظام وبين أعضاء الحرس الجديد.