قرأت هذه المقالة التى كتبها الشاعر اللبنانى ناظم السيد فى جريدة القدس العربى، فشعرت بمشاعر متنوعة بين الخجل والغضب ومغالبة رغبة جاهلية فى تذكر مساوئ لبنان والكتابة عنها، قبل أن أقرر أن أنشرها لك لتعم الفائدة أو ربما الخجل. «إنت وهو حاتخدوا باسبوراتكم من أول كونتر» هذه أول جملة سمعتها فى المطار حين وصلت القاهرة. كل اللبنانيين، أمثالى، أُخذت منهم جوازات السفر، قبل أن يُقادوا إلى زاوية فى المطار. وهناك تم إدخالهم فرادى إلى مكتب يضم رجلى أمن لسؤالهم حول زيارتهم مصر وسبب الزيارة والمهنة وغير ذلك.. لم يكن رجل الأمن يشبه رجال الأمن الذين تصوّرهم الأفلام المصرية إلا فى كتفيه العريضين وصوته الجهورى الحريص على إخراج الحروف واضحة وممتلئة. كان لطيفا بقدر ما تسمح له مهنته.. أخيراً، دفعنا ثمن هذا الإجراء ساعة ونصف الساعة من الانتظار لنخرج من القاعة الكبيرة التى شغلها عدد كبير من رجال الأمن والشرطة بعضهم كان يشرب الشاى وبعضهم كان يفترش الأرض ليصلى الظهر.. خارج القاعة استقبلنا الشخص المرافق للسائق الذى جاء ليقلنا. لكن السائق اختفى فجأة. كان علينا أن ننتظر عشرين دقيقة أخرى فى انتظار عودة السائق. لاحقاً عرفت أن ما جرى لم يكن سوى بروفة على انتظارات القاهرة وزمن المصريين. أول إصلاح لازم يبدأ فيه المصريون هو الالتزام بمواعيدهم.. التأخر عن المواعيد ظاهرة فى مصر.. مسافة الطريق يتحملها دائماً الشخص الآخر. و«مسافة السكة» هذه مصطلح كامل فى مصر. لا تتصل بشخص مصرى تأخر عن موعده إلا ويجيبك الإجابة نفسها: مسافة الطريق. لكن مسافة الطريق مسألة مطاطة. والدليل ما جرى لى حين سألت أحدهم عن الوقت اللازم للذهاب من القاهرة إلى مدينة الإنتاج الإعلامى من أجل عمل تليفزيونى يتطلب دقة فى مواعيد الوصول. قال لى ما بين الساعة ونصف الساعة. قلت له بلهجة لبنانية غاضبة قليلاً: فى فرق بين ساعة وساعة ونص. لكن الرجل من دون أن يعير انزعاجى من عدم الدقة أى اهتمام أجاب: يعنى إذا طلعت الساعة سبعة حتوصل الساعة تسعة. البطء. مفردة تعبّر عن المصريين الذين يتأخرون فى المواعيد. افترضت أن هذا التأخر الذى لا يلائم أجدادهم الفراعنة البارعين فى الهندسة المعمارية وأصحاب الدقة فى الحسابات ومخترعى الآخرة، افترضت أن له سبباً غير مصرى. إنه الانتظار. انتظر المصرى القديم بناء عمارات بحجم الأهرام. انتظر فراعنة مئات السنين حتى يفرغوا من الحكم. انتظر محاصيل ومواسم وأزمنة قحط وجوع. احتال على الجفاف ورافق النيل حتى مصبه. ولم يفارق هذا النهر منذ وُجدا معاً. الحضارات القديمة كلها نشأت قرب المياه وتوسّعت لاحقاً. وحده المصرى لم يقوَ على فراق النيل. عدم القدرة على المغادرة جينة لاتزال إلى اليوم تشدُّ المصريين إلى بلدهم كلما ابتعدوا عنه. نحن فى لبنان بعكس المصريين أخذنا الهجران عن الفينيقيين واعتدنا عليه. المصرى أيضاً انتظر العودة من موته، حين كان يتم تحنيطه متروكاً آلاف السنين مع بعض الأطعمة والأوانى والأغراض الشخصية. كانت المومياء المصرية قادرة على تحمّل ملامحها آلاف السنين. هذا درس فى الصبر على الذات. حتى الغبار الذى يكسو شوارع وأبنية القاهرة جزء من التاريخ.. جزء من ذلك الصبر. الغبار والتاريخ يتبادلان الصمت فى هذه المدينة الهائلة. واليوم لايزال المصرى ينتظر حلولاً كثيرة ليس لديه يد فى تغييرها: تبدل الحياة السياسية، تبدل الوضع الاقتصادى، حل أزمة السكن والمواصلات والكثافة السكانية التى تزداد فى المدن الكبرى. فكرت: ربما هذا ما يجعل المصريين يتأخرون. من ينتظر كل هذه الحلول لن تقدّم أو تؤخر عنده ساعة بالناقص أو ساعة بالزايد. لهذا تكثر لدى المصريين عبارات شبيهة بتلك التى وردت. لكن أبلغ هذه العبارات وأوضحها هذه العبارة التبريرية: مستعجل على إيه؟ التأخر عن المواعيد لا ينسجم مع الطريقة التى يقود بها المصريون سياراتهم. السائقون دائماً مسرعون حتى فى الأماكن المزدحمة. من النادر أن تجد سائق سيارة يتوقف لتقطع الطريق. لا يتوقف السائقون حتى للنساء والعجائز. سألت نفسى: إذا كانت كل هذه السرعة لن تأتى بمصرى فى موعده فما هى ضرورتها؟ هل هو الازدحام؟ هل هو السعى المتواصل لتحصيل لقمة العيش؟ هل هى مجرّد عادة؟ أياً كانت هذه الأسباب فإن هذه السرعة التى لم تنفع فى حسابات الالتزام بالمواعيد تنجح يومياً فى قتل عدد من الأشخاص وجرح العشرات. لم يمرّ يوم من فترة مكوثى فى القاهرة من غير أن أقرأ فى الصحف عن ضحايا حوادث السير. المصرى إما يصل متأخراً وإما لا يصل أبداً. وبين التأخر وعدم الوصول أسلوب حياة وأسلوب موت. «ماعادش ناقص غيرك إنت عشان تتكلم عن بلدنا»، غالباً سيكون هذا الشعور «أريح» للتعامل مع رؤية كهذه، فانظر ماذا ترى؟ * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]