(1) - يا أخى هو المهندس إبراهيم شكرى عايز إذن.. يشرف فى أى وقت. كانت تلك الإجابة هى التى بادرنى بها الشيخ الشعراوي ذات مساء عندما نقلت إليه رغبة المهندس إبراهيم شكرى فى زيارته. بيد أنى لمحت خلف كلمات الشيخ فى مسحة من ملامحه أن هناك شيئاً ما، ربما عتاباً محبوساً خلف كلمات لم تعد قادرة على كتمانه، والشاهد أن الود البادى والمرحب باللقاء فى كلمات مولانا كان ممزوجاً ببعض المذاق من لمحات «الزعل» -على حد التعبير الفصيح الذى طوعته العامية فصار دارجاً. قلت: مولانا.. أجاب: نعم.. قلت: أنا حاسس إنك زعلان شوية من المهندس إبراهيم شكرى. أطرق الشيخ برأسه قليلاً وأجاب: أيوه زعلان. صمت.. وكأنى بصمتى كنت أنتظر المزيد. تابع الشيخ: زعلان علشان لما طلب من حزب العمل تعيين 4 من أعضائه فى مجلس الشعب لم يكن من بينهم الحاج سيد جلال وهو من أوائل المؤسسين مع المهندس إبراهيم شكرى لحزب العمل. لبرهة صمت الشيخ ثم تابع: وأنا أول من تبرع لجريدة «الشعب» عندما طلب منى الحاج سيد جلال ذلك، وبالمبالغ التى كان يحددها. وأردف الشيخ ثانية: وسيد جلال شيخ النواب.. كان أولى الناس بأن يكون ضمن المعينين إن لم يكن استفادة بخبرته، يكن تكريماً له فى أخريات أيامه.. تكريماً مستحقاً لرجل أعطى لبلده على قدر طاقته وأكثر. أضفت قائلاً وربما معقباً: العجيب يا مولانا أن من تم تعيينهم انقلبوا على المهندس إبراهيم شكرى وانشقوا عليه. - كان ذلك جزءاً من قاسم مشترك جمع بين الرجلين الكبيرين «الإمام الجليل والشهيد الحى» كأنه قدر اقتسماه، أن يرد بعض من الأصدقاء والرفاق.. بل المريدون أيضاً الكثير من الإحسان من جانب الرجلين بقدر أكبر من الجحود والنكران.. حدث هذا مع الشيخ الجليل وكنا شهوداً عليه.. وحدث هذا مع الشهيد الحى.. وكنا أيضاً شهوداً عليه. (2) جلس المهندس إبراهيم شكرى فى المقعد المجاور وقدت سيارتى من منزله المطل على نيل الجيزة العتيق والعريق سعياً إلى بيت مولانا فى الهرم. حاولت عبثاً أن أبحث عن إجابة أو صدى لحديث مولانا أو ملاحظته وعتابه حول موضوع شيخ النواب سيد جلال.. استمع حتى انتهيت.. ابتسم ولم يعلق.. هو هو إبراهيم شكرى.. صدره وعاء اتسعت أطرافه وترامت.. سمح للأيام على تعددها وكثرتها بأن تضع مخزون الحوادث والأحداث بتجاربها وعبرتها فيه.. فى الصدر متسع.. والفم واللسان محرم عليهما البوح بما أغلق عليه وعاء الصدر على اتساعه. وقفت مشدوهاً وأنا أرقب مشهد اللقاء وقد شعرت بأن تيار المشاعر المتدفق لم يدع فى طريقه أى أثر لعتاب.. بل سرى بين الكبيرين دفئاً ووداً واحتراماً فخضعت له الجوارح مدفوعة فى حركة موحدة.. مال كل منهما على يد صاحبه سعياً لتقبيلها.. كلاهما فى نفس اللحظة وفى حركة واحدة أيضاً سحب يده من كف صاحبه قبل أن تقع عليها شفتاه. طاف بهما الحديث وتنوع وأمتع من حكايات زمالة جمعت بينهما فى وزارة ممدوح سالم إلى الشؤون الجارية فى مصر وقتها.. وقبل أن ينتهى اللقاء أهدى فضيلة الشيخ الشعراوى للمهندس إبراهيم شكرى عباءة من الصوف الفاخر ذات لون أسود. أدركت ساعتها أن ما يجمع الرجلين أكبر وأكثر عمقاً وجمالاً.. جمعهما ذلك الحلم الإسلامى والإنسانى البديع فى أن يصبح الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق فيهم ولا بينهم.. ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح. (3) كان الشيخ يجلس جلسته المعتادة على كنبة تواجه باب شقته فى سيدنا الحسين. بادرنى الإمام الجليل: قبل أن تجلس أحضر قرصاً من فيتامين «سى» وكوب ماء.. وضعت القرص والكوب على منضدة أمامه.. وجلست بجانبه حيث أشار لى بالجلوس. تابع مولانا قائلاً: فى الصباح تأملت حركة القرص داخل كوب الماء وكأنها تشرح وتوضح علاقة داعية الإصلاح بمجتمعه وأهله.. وبدأ يشرح مع كل حركة لقرص الفيتامين.. بدا وكأنه يخاطب نفسه أو يحكى عن نفسه.. وربما يوصيها. عندما وضع القرص استقر فى أعماق الكوب وبدأ ينزف من جسده فى حركة إشباع للماء بلونه البرتقالى.. فعقب الشيخ: هكذا يبدأ عطاء داعية الإصلاح من قاع مجتمعه -أذناى مع الشيخ وعيناى ترقب حركة القرص صعوداً إلى أعلى مع تغير كثافته. تابع مولانا: كلما أعطى مجتمعه رفعه هذا المجتمع إلى أعلى حتى يبدو وكأنه قد وضعه تاجاً على رأسه.. استقر ما تبقى من القرص للحظات على سطح الماء حتى ذاب وتلاشى فأردف الشيخ الجليل: حتى إذا ما وضعه مجتمعه عند أعلى درجاته.. ذاب فى هذا المجتمع عطاءً وهدياً حتى يبقى أثر عطائه باقياً وممتداً إلى ما شاء الله. لم تأخذ التجربة من عمر الزمن سوى بضع لحظات وربما دقائق ولكنها بدت وكأنها خلاصة درس تجربة التاريخ الإنسانى وعبرته تجلت هادية ومرشدة لكل دعاة الإصلاح.. أفرادًا أو جماعات.. وأيًا كان مقصدهم.. من الإصلاح الاجتماعى إلى الإصلاح السياسى قائلة وكأنها توصى: أقصد مباشرة بعطائك المخلص والدؤوب إلى قلب مجتمعك وقاعدته الأساسية.. هناك عند القاع تكون البداية.. كلما أعطيت.. صارت تلك القاعدة سندك وقوتك، رفعتك ودفعتك إلى صفوفها الأولى.. فإذا رفعتك علوًا إلى قمتها.. فلا تستعل عليها.. أكمل عطاءك ذوبانًا فيها وفناءً حتى يبقى أثر عطائك دائمًا ما دامت الحياة. بل ولعل تجربة قرص الفيتامين كانت شاهدة على قاسم مشترك آخر جمع الرجلين الكبيرين.. الإمام الجليل الشيخ الشعراوى.. والشهيد الحى إبراهيم شكرى. كلاهما تحرك بعطائه فى مجتمعه وأمته وكأنه قرص الفيتامين. (4) ■ ما الذى جرى مع عادل حسين؟ - بادرنى فضيلة الشيخ الشعراوى بهذا السؤال ذات صباح فى منزله بالهرم. أجبت فضيلته: قبض عليه ويبدو أنهم اعتقلوه - كان قد قبض على الأستاذ عادل حسين فيما سمى بقضية المظروف نسبة إلى المظروف الذى قبل إن جهاز مباحث أمن الدولة أنه وجد على مقعده فى الطائرة. ■ عاد الشيخ الشعراوى يسألنى: هل تعرف أين هو الآن؟ وأجبت فضيلته: فى سجن مزرعة طرة. فاجأنى مولانا بسؤال لم يرد على خاطرى: هل تعرف مقاساته فى الملبس؟ وكان ذلك فى شتاء عام «1994» فأجبت: لا.. ولكن بالتقريب يمكن وصف طوله وعرضه. تجدر الإشار فى هذا السياق إلى أن فضيلة الشيخ الشعراوى لم يلتق الأستاذ عادل حسين إلا فى لقاء جماعى بمنزل المهندس إبراهيم شكرى استجابة لرغبة همس بها فى أذنى المهندس إبراهيم قائلاً: بعض قيادات الحزب وبعض القيادات السياسية والوطنية من أحزاب أخرى فى منزلى مساء غد.. وأضاف مبتسما: يا ريت الشيخ الشعراوى يشرفنا علشان تحصل لنا البركة، نقلت رغبة المهندس إبراهيم شكرى ودعوته إلى الشيخ فقبل الدعوة. تابع الشيخ أسئلته عن الأستاذ عادل حسين: ■ هم خدوه علشان يحققوا معاه ولا الموضوع ممكن يطول؟ أجبت فضيلته: لا أحد يعرف ولكن يبدو أن الأمر قد يطول لبعض الوقت. فتابع الشيخ: على العموم لا تنس أن تمر على باكراً. ذهبت إلى بيت الشيخ الجليل فى الهرم فى اليوم التالى كالعادة وكانت مفاجأة مدهشة لى.. طاقم كامل من الصوف الفاخر بدءا من الملابس الداخلية وانتهاء بجلباب تعلوه عباءة من نفس القماش ومن نفس اللون أيضاً إضافة إلى شراب وجوانتى من الصوف الفاخر أيضاً كان الشيخ قد قام بتجهيزها وأعطاها لى قائلاً: ودى له دول وخليه يلبسهم يا بنى علشان يدفوه ويحموه من برد الشتاء.. ثم تابع فضيلة الشيخ حديثه: وإذا كانت هناك مشكلة فى دخول الملابس اذهب إلى مأمور السجن وقل له: دول من الشيخ الشعراوى لعادل حسين وإذا اقتضى الأمر كلمنى فى التليفون من عنده. فى اليوم التالى قصدت مكتب مأمور السجن مباشرة حاملاً ملابس الشيخ لعادل حسين وللأمانة أجابنى مأمور السجن قائلاً: طلبات مولانا الشيخ الشعراوى أوامر لا ترد. كان فضيلة الشيخ الشعراوى كلما تذكر تلك الحادثة أو ذكرت أمامه بدت على وجهه بعض من ملامح الحزن فالأستاذ عادل حسين مع الأسف الشديد لم يكلف خاطره حتى بالاتصال بالشيخ ليقدم له شكراً كان واجباً على موقف الشيخ منه وبدا الأمر وكأنه نوع من النكران. كان فى مصر وقتها مراسل لإحدى الصحف الإنجليزية أظنها «التايمز» يدعى نيكولاس بيلهام - قامت السلطات المصرية بطرده فى وقت لاحق - وعلى ما يبدو كان مكلفاً بمتابعة نشاط ما اصطلح على تسميتهم «جماعات الإسلام السياسى» وكنا قد التقينا مرة أو مرتين حيث كان يصر بدأب على سؤال كل من يلتقيه عن دور الإسلام فى الحركة السياسية المصرية.. والحاصل أنه حضر إلى مكتبى ذات مساء وقال بإصرار - وكان يتحدث العربية على نحو جيد - لن أتركك حتى تذهب بى إلى الشيخ الشعراوى وفى أى مكان. حاولت أن أثنيه فأصر.. قلت نذهب إلى مبرة الشيخ فى السيدة نفيسة وأنت وحظك. جلس أمام الشيخ وفتح تسجيلاً صغيراً كان فى يده وسأل الشيخ عن علاقة الإسلام بالدولة. أجابه فضيلة الشيخ الشعراوى: أنا أجيب أفاض الشيخ الجليل شرحاً عن وظيفة الإسلام ودوره فى تنظيم وإدارة حركة الحياة من الفرد إلى الدولة وعن حتمية علاقة الإسلام بالدولة. أعاد الصحفى سؤاله بطريقة أخرى قائلاً: ■ ولماذا يفرض على غير المسلمين ذلك؟ فأجابه الشيخ: مع الأديان الأخرى نحن نقدم الإسلام النظام وليس العقيدة، مع الأديان الأخرى نحن لا نقدم الإسلام ديناً بديل دين، ثم تابع الشيخ حديثه قائلاً: ضعوه على المنضدة نظاماً بجوار باقى النظم الوضعية وانظروا وابحثوا أيها أفضل لبناء المجتمعات.. صمت الشيخ الشعراوى لبرهه وتابع حديثه: ألم تلجأ المسيحية عندكم فىأوروبا لنظام الطلاق وهو إسلامى لحل بعض مشاكلهم الاجتماعية، وتابع الشيخ متسائلاً: ذهبوا إلى الطلاق تديناً أم نظاماً. وأضاف الشيخ: اجعل هذا مقياساً وانظر فى باقى عناصر النظام الإسلامى من بناء الأسرة إلى بناء الاقتصاد. طال الحوار وتشعب إلى أن عرج الصحفى البريطانى به دفاعاً عن حق إسرائيل فى الوجود. احتد الشيخ الشعراوى قائلاً لا تدافع عن مغتصب.