كان الخبر مثيراً للغاية.. «الحكومة تدرس حالياً إصدار قرارات تنفيذية لها قوة القانون لإزالة التعديات على البحيرات الشمالية، ومنها المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط، بعد صدور تقارير رسمية لوزارة الزراعة بتزايد حالات التعدى عليها التى وصفتها التقارير ب(الأخطر). كان لابد لنا أن نتحرك.. على الأقل نعرف ما الأسباب التى فتحت الباب أمام هذه التعديات، وإلى أى مدى وصلت، ولماذا وصفتها التقارير بالأخطر، ومن هم الذين يقفون وراءها؟! عبر جولة امتدت لأسابيع رحنا نقطع البحيرات من شرق مصر لغربها.. من المنزلة للبرلس، مروراً بإدكو وانتهاءً بمريوط.. جلسنا مع صيادين، واستمعنا لتنفيذيين، وعاينا المواقع على الطبيعة وكان التحقيق التالى. أربعون عاما قضاها «عم سيد نصر» فى الصيد من بحيرة البرلس، تذوب الشباك بين يديه ولا تذوب إرادته وهو يشق ب«فلوكته» الصغيرة وجه البحيرة الهادئ، كل خليج هنا كانت له فيه ذكريات، لكن الزمن تنكر للرجل الذى جاوز الستين، وبعد أن كان يقتات من أسماك «الدينيس» و«القاروص» غالية الثمن، أصبحت شباكه خالية إلا من أمشاط البلطى البائسة. لا يختلف وضع باقى الصيادين كثيرا عن «عم سيد»، فشريان الحياة الذى يربطهم بالبحر تم قطعه، بعض عصابات صيد الزريعة أحكمت سيطرتها تماما على بوغاز البرلس، هذا المضيق المائى الذى لا يزيد عرضه على 150 مترا، هو همزة الوصل بين البحر المتوسط والبحيرة، وبين شهرى أغسطس ومارس، يبدأ موسم لجوء الزريعة وصغار السمك إلى البحيرة. 25 ألف صياد، يشكل البحر المتوسط وبحيرة البرلس مصدر رزقهم الوحيد، حين يغلق البحر فى وجوههم بسبب اتفاقية وقف الصيد بين دول حوض المتوسط فى شهرى مايو ويونيو، يتجهون ناحية البحيرة، لكن الصيد هنا محظور أيضا بسبب مجموعة من الكبار تغلق بوغاز البرلس بشباك رفيعة، تصيد الزريعة وتمنعها من الدخول للبحيرة. «أحمد سعد شبارة»، أحد الصيادين، يقول إنه حول نشاطه من الصيد الحر إلى العمل من الباطن مع أباطرة الزريعة، يتوجه كل يوم إلى ساحل القرية ويصطاد السمك الصغير من الأنواع النادرة مثل القاروص والدينيس، ويبيع الواحدة بثلاثة جنيهات، يقول أحمد: «نعمل إيه.. شغلانة الزريعة قطعت أرزاق الخلق، أنا سرحت 14 يوم فى البحيرة مافيش صنف سمك، الصيد ماعدش جايب همه». يعترف أحمد بأن عمله غير شرعى، لكنه يطالب بمحاسبة الكبار، ودعانا للتوجه إلى منطقة البوغاز لرؤية ما يقوم به أولاد «الحنفى»، وهؤلاء - كما يصفهم - هم أباطرة الزريعة «اللى عملوا منها فلوس أكتر من المخدرات». يوضح رابح الشهاوى، أحد أهالى البرلس، كيف تعمل عصابات سرقة الزريعة على حرمان الصيادين من مورد رزقهم الطبيعى والوحيد؟ يقول رابح: مع تصاعد نشاط الاستزراع السمكى بدأ البحث عن الزريعة الصغيرة وصيدها بصورة جائرة يتصاعدان، ونظرا لأن الأسماك غالية الثمن تحتاج إلى مواصفات معينة لتربيتها، نشطت مزارع فى دمياط وبورسعيد، تربى «القاروص واللوط والوقار»، وتوجهت للبرلس، لأن الدورة الطبيعية لتكاثر هذه الأسماك تدفعها للخروج لوضع البيض فى البحر. وبعد التفريخ تتوجه الملايين منها للعيش فى مياه البحيرة الغنية بالعناصر الغذائية، والمنفذ الوحيد لها لدخول البحيرة هو البوغاز، وهنا ينشط قراصنة الزريعة، ويقيمون سدا من الغزل الدقيق لا يسمح بعبور أى سمكة، ثم يصيدونها ليباع مقدار مصفاة الشاى من الزريعة الخاصة بالقاروص يقدر عددها ب100 سمكة ب150 جنيها للمزارع، ولو قدر لهذه الكمية أن تصل للبحيرة تزن السمكة الواحدة منها كيلو جراماً بعد 4 شهور فقط، ويصل ثمن الواحدة إلى 80 جنيها هو سعر القاروص فى السوق، ويضيف: «لكم أن تتخيلوا مدى الظلم الذى يتعرض له الصيادون لصالح حفنة من تجار الزريعة الذين يعملون بالمخالفة للقانون. «محمد النحاس»، فنان تشكيلى من البرلس، يسلط الضوء على جانب آخر من مأساة البحيرة التى يطل عليها منزله، وتم تخصيصها كمحمية طبيعية منذ عام 1982، يقول «النحاس»: إنهم لا يقتلون السمك بصيد الزريعة فقط، بل إن المزارع السمكية تقضى على المساحة المخصصة للصيد الحر، والكراكات الخاصة بها تجفف آلاف الأفدنة، وكله بعلم شرطة المسطحات التى لا تحرك ساكناً، والمزارع تقوم بإضافة هرمونات لأحواض السمك تعمل على منعه من التزاوج، إن السمك يمتنع عن الأكل فى موسم التكاثر، ولأغراض تجارية بحتة، يتم تعقير السمك حتى يستمر فى تناول العليقة ويكبر فى حجمه، لكن الكارثة تتحقق من صرف مياه هذه الأحواض فى البحيرة بعد انتهاء موسم التربية، فتنطلق هذه الهرمونات لتقوم بتعقير أمهات السمك فى البحيرة والقضاء على الأسماك بمرور الوقت. وفى ظل غياب الرقابة من الجهات المختصة، يقوم بعض التجار بصيد أسماك البلطى الصغيرة من البحيرة قبل أن تصل لأحجامها الطبيعية ويجففونها على الشاطئ، لبيعها لأصحاب مصانع الأعلاف الحيوانية وأعلاف الدواجن وعليقة الأسماك، مما يهدد بقاء أسماك البلطى فى البحيرة، وأمام هذه المشكلات توجهنا إلى الدكتور محمد عبدالغنى، مدير إدارة البحيرات والمصايد فى هيئة تنمية الثروة السمكية، الذى أكد وقوف الهيئة ضد سياسة تجفيف البحيرات، وأوضح أنه يتابع الحملات الأمنية بكل بحيرة من البحيرات الشمالية لإزالة جميع التعديات ومنع الصيد المخالف والحد من التلوث، مع استمرار متابعة أعمال تطهير البوغاز. واعترف عبدالغنى بكثرة التعديات على البحيرات، مما أدى إلى التجفيف المستمر والتعدى على المسطح المائى، ووضع اليد، وجار حالياً وضع حدود بكل بحيرة وتحديد مواقع التعديات والتعاقدات على أن يلغى كل من يتعدى على أكثر مما هو محدد بالتعاقد، خاصة فى مناطق الصيد الحر. وما بين تحرك الجهات المسؤولة واستمرار عمليات صيد الزريعة والقضاء المنظم على محمية برج البرلس، يتساءل الصيادون: هل تكون محاضر المخالفات والإزالة هذه كسابقاتها؟.. الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذه الأسئلة.