عندما يتعلق الأمر بما يَمس الكرامة، تجنَبْ مَنْ ينصحك بنعمة النسيان!.. فى منتصف التسعينيات استقبل مطار القاهرة عددا كبيرا من التوابيت لمصريين قتلوا فى العراق!.. حاولتْ الحكومة حينها التعاملَ مع المسألة بمبدأ (إكفى على الخبر ماجور!)، لكن المواجير لم تكف، بعدما بلغ عدد القتلى 5569 قتيلا، كما جاء فى كتاب للأستاذ إبراهيم سعدة!.. استفسرتْ الخارجية المصرية لدى شقيقتها العراقية، وتلقت الجواب الشافى: التحقيقات لا تشير إلى أى شبهة جنائية!.. يعنى قضاء وقدرًا!.. مزرعة كتاكيت أصابتها (شوطة) فنفق 5569 كتكوتا!.. الحقيقة أن مخابرات صدام حسين كانت آنذاك تصالح مواطنيها الغاضبين من زيادة عدد المصريين فى العراق، ولم تجد سوى تلك الوسيلة!.. ذهب مع الريح الدعمُ المصرى للعراق فى حربه مع إيران، وأصبح المصريون ضيوفا غير مرغوب فيهم، وآمنتْ حكومتنا بأن النسيان نعمة! الأسبوع الماضى ذاق 6 آلاف مصرى طعم الذل لمدة ثلاثة أيام على الحدود الليبية المصرية.. كانوا فى طريقهم إلى الوطن عندما فوجئوا بمسؤولين فى منفذ (مساعد) الليبى يطالبونهم بدفع رسوم خروج قيمتها 500 دينار!.. هنا بدأت المأساة التى روى أحد العائدين جزءا منها ل«المصرى اليوم»: (لم نذق طعم النوم ونحن نحاول أن نشرح لهم أننا مغادرون، والرسوم تطبق على القادمين، فكانت إجاباتهم: السب والإهانة بالأم والأب ولم يشفع لنا بكاء الأطفال!).. أطلقت السلطات الليبية الأعيرة النارية فى الهواء لإجبار المصريين على سداد الرسوم الجديدة، وزاد الطين بلة الإعلانُ عن اكتشاف مرض الطاعون فى منطقة غير بعيدة!.. طبعا من حق الحكومة الليبية اتخاذُ ما تراه من إجراءات تجاه العمالة الأجنبية، حتى لو بدت تلك الإجراءات فى نظر الجميع بعيدة عن المنطق!.. فى الوقت نفسه من واجب العاملين المصريين فى ليبيا تهيئة أنفسهم لأى مفاجآت غير سارة!.. تلك هى اللعبة التى تتبدل قواعدها تبعا لمزاج زعيم ثورة الفاتح! .. بعد اتفاق أوسلو غضب الزعيم على ياسر عرفات فأمر بطرد الفلسطينيين من ليبيا!.. قال لهم: صارت لكم دولة، ارحلوا إليها!.. فعل نفس الشىء مع المصريين والتوانسة فى مراتٍ غضب فيها على الحكومتين المصرية والتونسية!.. للزعيم فى ذلك حِكم، فما الحكمة فى صمتنا؟!.. ألا يحق لنا التساؤل عن تصنيف ليبيا بالنسبة لنا.. هل هى مجرد دولة جارة، أم صديقة أم شقيقة؟.. إنه سؤال مشروع، لأن ما جرى (ويجرى) للمصريين هناك يتعارض مع الصورة الراهنة (الرائعة) للعلاقات الرسمية بين البلدين.. فالعقيد القذافى يزور مصر باستمرار، ويتجول فى ربوعها، ويلتقى مع أقاربه فى الشرقية والفيوم، ويُكرم بحضور حفلات تخرج طلاب الكليات العسكرية!.. أليس من الغريب إذن أن يكون القذافى فى زيارة (أخوية) إلى القاهرة، بينما حرس حدوده ورجال جماركه يمعنون فى إهانة المصريين العائدين إلى بلدهم؟.. أليس من المدهش والمحزن والمضحك والمبكى أن وزارة اقتصاده تصدر فى نفس اليوم قرارا بفرض 10% رسوما على المنتجات المصرية دون إخطار الجانب المصرى وبالمخالفة لبنود اتفاقية تسيير التجارة العربية؟!.. أفترضُ أن أحداً ما لديه إجابات عن تلك الأسئلة.. فالصمت والتدثر بنعمة النسيان يجعل آلاف المصريين الغلابة، ضحايا حكومتين.. واحدة بغزالة، والأخرى بلا إحساس! [email protected]