لكل أمة رجال، همهم وشغلهم الشاغل الدفاع عن هذه الأمة، وعن أصالتها وتراثها وقيمها وعاداتها وتقاليدها والحفاظ على استقلالها وحماية حاضرها والتطلع لبناء مستقبلها، رجال آمنوا بغلبة سلطان حب الوطن على حب الذات، ومصلحة الجماعة على أنانية الفرد، صدقوا النية فأخلصوا فى العمل، تواروا خلف تواضعهم فأصبحوا ملء الأسماع والأبصار، أعطوا فأجزلوا العطاء، رجال آمنوا أن تأصيل الديمقراطية وحمل سلاح الحرية يستوجب معرفة كل منهم ما له من حقوق، وما عليه من واجبات، حصنوا أنفسهم بالمعرفة فكانوا - بحق - النور الذى أضاء للدنيا طريق النهضة والتطور، وسمحوا بضخ دماء نظيفة فى شرايين الأوطان لاستنشاق نسيم الأمل، بدلاً من حرارة اليأس التى حاولت أن تفرضها قوى الظلم الغاشمة، رجال لم يختصهم عصر واحد أو لغة واحدة أو دين واحد أو فكر واحد، بل جمعهم هم واحد هو حب الأوطان، بهؤلاء وعى الناس كل معانى الحياة، بهؤلاء تتتابع الأيام، ويتولد النور من الظلمة، ومن هؤلاء رجل كان عنواناً من العناوين المهمة فى تاريخ مصر المعاصر، هو الإنسان المحامى الأديب السياسى (مكرم عبيد). ودع فارسنا الدنيا فى مثل هذه الأيام من شهر يونيو عام 1961، وترك لنا من نبل مواقفه وأفكاره، وجمال سيرته، ما استوجب احترام ذكراه والاحتفال بإعادة إحيائها، لكن يبدو أن الانشغال بالمغامرات النسائية لرجال الأعمال وزيجات المشاهير وصفقات لاعبى كرة القدم وغيرها، أغرق الإعلام فى هذه الدوامة، رغم أن مكرم عبيد منهج لكل مسؤول يريد تعلم معنى المسؤولية وكسب احترام الآخرين، مكرم عبيد رصاصة فى قلب كل من يحاول التجارة بقضايا الأقباط والاستقواء بالغرباء والتربح منهم باسم حماية حقوق الأقليات، مكرم عبيد كان أنشودة رائعة فى ملحمة خالدة اسمها مصر، وصورة حية للنقاء الوطنى، عاش أزمنة سياسية مختلفة، تناوبت عليه خلالها حكومات وتيارات كثيرة، جعلته أشهر الزعماء فى الربع الثانى من القرن العشرين، سماه بعض أصدقائه ابن سعد البار، لحبه الشديد لسعد زغلول وإيمانه بثورته، وسماه بعضهم المجاهد الكبير لتوظيفه كل إمكانياته فى خدمة الوطن كانت حياته سيمفونية من النغمات الحلوة فيها القيثارة الحزينة، فيها الإيقاع المتتابع، تنوعت ثقافاته وتعددت روافدها، فامتلك اللغة ونواصيها وصار خطيباً بارعاً، قل أن يجود الزمان بمثله، ورغم كونه مسيحياً إلا أنه لم يستسلم لدعاة الفرقة بين الأمة، ورفض الاحتماء بالإنجليز الذين كانوا يرددون دائماً أنهم جاءوا لإنقاذ الأقباط من اضطهاد المسلمين. كان بوسع مكرم أن يطبل مع الإنجليز على نغمة فرقة الأمة مقابل جنيهات هنا ودولارات هناك، كان بوسعه أن يؤثر السلامة والنعيم ويكذب على الناس باسم حقوق الإنسان، لكنه اختار النفى مع زعيم الأمة سعد زغلول، والاكتواء بمرارة الغربة، ومما يذكر لمكرم أنه كان ضمن الأقباط الذين أعلنوا رفضهم القاطع أمام اللجنة المشكلة لوضع دستور 1923 لأى نص يتضمن تمثيلاً نسبياً للأقباط فى البرلمان، لأن فكرة التمثيل فى حد ذاتها هادمة للوحدة الوطنية، وموجبة للتفريق بين أبناء الشعب الواحد تحت ستار الدين، ولأن احترام الذات، يزيد احترام الآخرين وحبهم فقد حظى مكرم بشعبية كبيرة سواء على المستوى الشعبى أو على مستوى حزب «الوفد» الذى شرف بالانتماء إليه، ويبدو ذلك عندما تقدم مكرم للانتخابات البرلمانية عام 1924 فإذا به يفوز بجدارة على منافسه المسلم أحمد يس عن دائرة (قنا)، وفى عام 1927 يرحل زعيم الأمة سعد زغلول عن عالمنا، ويترك الراية بعده لمصطفى النحاس زعيماً جديداً لحزب «الوفد»، ويعين مكرم عبيد سكرتير عاماً له، وفى عام 1928 يبدأ فى تولى الحقائب الوزارية فى حكومة النحاس، والتى كان أولها وزارة النقل ومن بعدها وزارة المالية عدة مرات، لم يقبل مكرم عبيد طيلة حياته أى شكل من أشكال الفساد والرشوة والمحسوبية، كان يرفض تدبير الدرجات المالية لمحاسيب أعضاء حزب «الوفد»، ومن أشهر مواقفه أنه اعترض على تيسير مصالح مالية وتجارية لزينب الوكيل زوجة النحاس باشا وبعض أقربائها، وهو ما أغضب النحاس جداً، فطلب من مكرم الاستقالة من الحكومة لكن مكرم رفض، فما كان من النحاس إلا أن رفع استقالة الحكومة كلها للملك ولم يكن قد مر على قيامها أكثر من 4 أشهر، ليعيد تشكيلها دون مكرم عبيد، لم يصرخ مكرم مما حدث، ويوظفه على أنه اضطهاد للمسيحيين كما يحلو للبعض هذه الأيام، لم يهرب من مصر ويؤسس جماعة يسميها أقباط المهجر، ليقلب المسيحيين على المسلمين، بل راح يدافع عن نفسه بطريقته، وجاء رده على النحاس بتأليف كتابه الشهير: (الكتاب الأسود فى العهد الأسود) جمع فيه جملة فضائح ارتكبتها حكومة الوفد فى أشهر قليلة، وفتح ملفات الفساد على مصراعيها. قام مكرم، بتأسيس حزب جديد سماه الكتلة الوفدية، حاول من خلاله منافسة النحاس على زعامة مصر، حتى حسمت الثورة هذه المرحلة بسقوط الملكية واستبدالها بالنظام الجمهورى، وقد تحمس لها ووصفها بالبيضاء. كان أكثر ما شغل مكرم هو ما يشغلنا الآن: ضرورة إلغاء الحظر على الحريات، إلغاء الأحكام العرفية، إلغاء الحبس الاحتياطى فى جرائم الرأى، تفعيل دور البرلمان، فرض اللامركزية، استقلال القضاء... إلخ. وأجمل ما دعا به مكرم عبيد للمصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين: اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، للوطن أنصاراً، اللهم اجعلنا نحن النصارى لك، للوطن مسلمين. رحم الله مكرم عبيد، فهل من غيور؟ [email protected]