بلحية طويلة شاب أغلبها، ونظارة طبية تليق بالعلماء، يرسم سماحة «السيد» صورته.. بلثغة فى حرف الراء، وخاتم فى خنصر يده اليمنى، وخصلات شعر هاربة من سطوة عمامته السوداء، تتكون الكاريزما وترتسم الصورة.. صورة حسن نصرالله. لم يكن أحد سواه يعلم مسار رحلته، فاشتياق الرجل للزعامة بدأ مع طفولته.. عندما وقف أمام صورة للإمام موسى الصدر فى محل الفاكهة الخاص بوالده عبد الكريم نصرالله، تأمل اللحية البيضاء وهالة العمامة السوداء للفقيه الكبير، ورأى فى ثناياها مستقبله. يقول ل«روبرت رايت» محرر الواشنطن بوست عام 2006: «بدأت التخطيط فى عامى التاسع لليوم الذى أصبح فيه زعيماً، وفى سن العاشرة كنت ألف وشاح جدتى الأسود الطويل على رأسى وأقول لها إننى رجل دين، صلى خلفى». وهكذا بدأت ملامح الزعامة تظهر فى شخصية «نصرالله» الشقيق الأكبر لتسعة أخوة فى أسرة فقيرة لم يعرف عنها التدين. كخيار طبيعى لتعلقه بالإمام موسى الصدر التحق الشاب صاحب ال15 عاماً بصفوف «حركة المحرومين» المعروفة باسم «حركة أمل». وهو الخيار الذى عكس رغبته فى التميز والاختلاف عن أصدقائه فى قرية «البازوزية» بمدينة صور، التى كان يسيطر عليها التقدميون واليساريون، ويحظى فيها الحزب الشيوعى اللبنانى بمكانة خاصة. رحلة قصيرة داخل «أمل» أصبح بعدها «نصرالله» مندوباً للحركة فى «البازوزية»، أعقبتها رحلة طويلة إلى حوزة «النجف الأشرف» فى العراق بتوصية خاصة إلى السيد محمد باقر الصدر. وهناك بدأ قدره يأخذ مساره.. قابل طالب العلم والزعامة السيد عباس الموسوى - ظل الزعيم (موسى الصدر) - الذى أوصاه «باقر» بتربية وتعليم الوافد الجديد إلى النجف. وتتوطد وتقترب أحلام الزعامة أكثر، وللمرة الثانية يحالف التوفيق الشاب الحالم، فيتصادف هجوم الشرطة العراقية على «النجف» مع وجوده خارج حرم الحوزة، ويُعتقل رفاقه ويعود إلى لبنان قبل صدور الأوامر باعتقاله. وفى مدينة «بعلبك» يؤسس «الموسوى» مدرسة دينية، يستكمل فيها «نصرالله» دراسته، ويصبح عضواً فى المكتب السياسى لحركة «أمل» مع شقيقه حسين، منهياً بذلك مرحلة الطفولة بنجاح كبير وضعه على أولى درجات الزعامة. وانفتحت أبواب العنف المشروع واللا مشروع، فانفجرت حرب بين حركتى «أمل» و«حزب الله» - الذى تم الإعلان عنها رسمياً 1985 - بسبب خلاف على مناطق النفوذ عام 1988، ولم يكن «نصرالله» قد نسى حلم الزعامة بعد، فواصل الحرب من الصفوف الأمامية ضد إخوانه فى «أمل».. أخوته ضمنيا بالدين، وواقعيا بالدم، فعلى الجانب الآخر كان «حسين» الشقيق الأصغر للسيد «حسن»، وانقلب النزاع إلى مواجهة عائلية، أُصيب خلالها «حسين» وهى الإصابة التى جعلت علاقة الشقيقين متوترة حتى الآن، حسب تصريح لصحفى مقرب من الأمين العام للحزب، ل«الواشنطن بوست»، وبدأت الأسئلة عن الخيط الفاصل بين العنف المشروع واللا مشروع تتزايد، وبدا طريق الزعامة مفروشا بالدماء.. بدماء الأشقاء. انتهت الحرب بين «أمل» و«حزب الله» بتدخل سورى، أعاد لحركة «أمل» بعضا من نفوذها، وانقسم «حزب الله» إلى شطرين، واحد يتبنى وضع السلاح جانباً، والآخر يريد مواصلة الكفاح ضد «أمل»، وانحاز «نصرالله» للموقف الآخر، وسافر غاضباً إلى مدينة «قم» الإيرانية، متنازلا للقيادى نعيم قاسم عن مكانته المهمة فى الحزب كمسؤول تنفيذى عام مكلّف بتطبيق قرارات «مجلس الشورى»، بعد أن أدرك أن الغلبة والتحكم فى الحزب مثل أى تنظيم دينى مقتصرة على رجال الدين.. وفى «قم» حاول الحصول على درجة فقيه، ولكن بسبب توتر الأوضاع مع حركة «أمل» من جديد فى «أقليم التفاح»، عاد «نصرالله» سريعاً إلى لبنان، وضاع حلم «الفقيه».. يقول أحد معلميه فى «قم»: «نصرالله لديه شخصية قوية جدًا، حينما تستمع إليه يطربك، ولكنك حينما تسأله فى أمور الدين، سوف تندهش من قلة المعلومات لديه، ف(نصرالله) لم يصل إلى المستويات الأولى ليكون فقيها شيعيًا»، ولخصه «نصرالله» فى حوار مع مجلة مجازين الفرنسية قائلا «أغلى أمنية لدىّ أن أعود طالباً». وتلعب المصادفة من جديد دوراً جديداً - ومؤثراً - فى حياة «نصرالله»، بعد قيام إسرائيل باغتيال عباس الموسوى الأمين العام للحزب عام 1992 بعد 9 شهور فقط من توليه المسؤولية، ويضطر مجلس القيادة لاختيار «نصرالله» العضو الأصغر سنا (32 سنة)، لاعتبارات عاطفية، فحسب تعبير أحد قيادات الحزب لمجلة «مجازين»: «كان ينبغى، بشكل من الأشكال، التعبير عن إجلال من القلب للموسوى، الذى كان نصرالله أقرب شخص إليه، فقد كان يقال فى الحزب (عباس وحسن وجهان لعملة واحدة)». تحقق المراد، وأصبحت الزعامة حقيقة وواقعاً، زعيم شاب لتنظيم دينى أكبر إنجازاته حرب طاحنة مع حركة «أمل».. وبدأ السياسى يتلمس طريقه داخل العسكرى، فكان القرار الأول مُعبراً عن زعامة ترفض الاكتفاء بكونها دينية، وتنظر إلى آفاق السياسة الأوسع.. دخل «حزب الله» الانتخابات البرلمانية، وفاز ب12 مقعداً.. وتحولت الجماعة الدينية إلى كيان سياسى، بدأت معه ملامح الزعامة تتضح وتتبلور. ومع أول هجمة بصاروخ كاتيوشا على مناطق الاحتلال الإسرائيلى، وأول استنكار لهجمات إرهابية ضد السفارة الأمريكية فى الأرجنتين، طرح «نصرالله» نفسه، رجل السياسة فى شمال لبنان، ورجل الدين فى جنوبها.. وكثف «حزب الله» عملياته العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلى فبلغت فى الفترة بين عامى 1995 و1997 (736) عملية من أصل 937 عملية تم تنفيذها ضد الاحتلال، وبدأت نوبات الهياج تنتاب «إسرائيل» من قدرة الحزب الصغير على تهديد أمن شمالها المزعوم، فشنت حربا جوية صغيرة تحت اسم «عناقيد الغضب» فى أبريل 1996 على قواعد الحزب فى الجنوب اللبنانى، وفشلت فى تحقيق نتيجة، مما استدعى تدخلاً أمريكياً رعى «تفاهم نيسان»، والذى وافق فيه «حزب الله» على عدم مهاجمة المدنيين شمال إسرائيل، مقابل الاعتراف بحقه فى مقاومة الاحتلال لجنوب لبنان. وقفز «تفاهم نيسان» ب«نصرالله» خطوات واسعة إلى الأمام، وأسس لنظرية «توازن الرعب»، التى ساهمت فى دفع الإسرائيليين فيما بعد إلى الانسحاب، واستطاع، بخليط من القدرة السياسية والكاريزما الشخصية، تحويل الحزب إلى ورقة إقليمية فاعلة، وصاحب ذلك تحول ملحوظ فى تفكير «السيد»، وبعد أن كان يقول: «لا ينبغى التفكير فى أنّ شخصاً واحداً، مهما كان جليلاً، قادر على احتكار الفكر والمعرفة الدينية والعلم السياسى»، وافق على تعديل نظام الحزب الداخلى، الذى كان يمنع إعادة انتخاب الأمين العام نفسه لأكثر من دورتين، وأصبحت الأمانة العامة للحزب فى يد «الزعيم الأوحد» حسن نصرالله. وفى عام 2000 ومع تصاعد عمليات المقاومة صوّت «الكنيست» على الانسحاب من الجنوب اللبنانى، وأصبح «نصرالله» معشوق الجماهير العربية، وبدأ السؤال الأكثر منطقية يظهر فى الأفق. ماذا بعد؟ على المستوى الداخلى فى لبنان واجه «السيد» أزمة بعد اغتيال رفيق الحريرى، الذى مثل لسنوات الند القوى ل«نصرالله»، وبدأ شعور بعدم الندية مع الآخرين يتبلور بداخله، وبدأت لهجة المنتصر عند حديثه عن الآخر تختلف ويقول: «الحكومة اللبنانية التى تدّعى أنها حكومة» و«الفريق الذى يدّعى أنّه سيادى واستقلالى» و«المجلس النيابى نتيجة قانون فاسد وتحالف خادع» و«الدولة التى تتواطأ على أهلها، وشعبها، ومقاومتها، ليست دولة، ولا يمكن لأحدٍ القضاء على حيويّة حزب الله، لأنه يمثِّل حركة شعبية لديها قضيّة واضحة». بعد حرب شنتها إسرائيل فى 2006 على الجنوب اللبنانى، بدأت بخطف الحزب جنديين إسرائيليين وانتهت بمقتل حوالى 130 إسرائيليا و1200 لبنانى، صنفها نصرالله «انتصاراً»، وأقرت لجنة «فينوجراد» الإسرائيلية بها كهزيمة، أصبح «نصرالله» أكثر تصادمية، فدخل فى معارك سياسية داخلية، انتهت بتوجيه السلاح - مرة أخرى - فى الاتجاه الخطأ، ومع توتر الأوضاع فى بدايات 2008 بسبب الخلافات المشتعلة مع الحكومة اللبنانية، وجد «نصرالله» فى إقالة مدير أمن المطار، العميد وفيق شقير فرصة لإثبات قوته، ونزلت قوات «حزب الله» المسلحة إلى الشوارع، وفرضت رؤيتها، التى صاغها اتفاق «الدوحة» فى إطار دبلوماسى لحفظ ماء الوجه. وفى نهاية العام نفسه راهن «نصرالله» رهانا جديدا، ثقةً فى زعامته وكاريزمته، وأملاً فى اتساع مداها لتشمل الوطن العربى.. هاجم الدول العربية إبان حرب «غزة»، وبالأسلوب الذى تعامل به مع الفرقاء فى لبنان، وبنفس اللغة والمرادفات والاتهامات، دخل فى صدام مع مصر والسعودية بشكل خاص، ثم صعّد من هجومه الكلامى إلى أفعال اعتبرتها مصر ودول أخرى اختراقاً لسيادتها، واعتبرها هو جزءاً من نضاله المشروع، وبقيت نتيجة الرهان غامضة لا يعلمها إلا سماحة «السيد» نفسه، وإن ظهرت بوادرها فى نتيجة الانتخابات البرلمانية اللبنانية الأخيرة، بخسارة لم يتوقعها صاحب السماحة، ولم تمنعه من تحذير الفريق المنتخب بديمقراطية من الانفراد بالسلطة. حالة التماهى مع صورة الزعيم، التى سيطرت على «سيد المقاومة»، والتى ساهم فيها خلو الساحة اللبنانية من بديل وند قوى، وضاعفتها انتصاراته الأولى على إسرائيل، تجسدت فى اختيار خليفته فى حزب الله، ورغم إن الحزب ملىء بالقيادات القديمة اختار «نصرالله» «هاشم صفى الدين» ابن خالته، القيادى التنفيذى، ليخلفه، ورغم التشابه الكبير بين أولاد الخالة فى الأفكار وطريقة الكلام، فإن التسريبات الخاصة بترشيح «صفى الدين»، المطلع على الكثير من الأمور التنظيمية داخل الحزب بحكم موقعه، قوبلت بالرفض، بسبب رؤية البعض أن «صفى الدين» صورة من الأمين العام، له لحية طويلة لم تشب بعد، ونظارة طبية تليق بالعلماء.. ولثغة فى حرف الراء، وخاتم فى خنصر يده اليمنى، وخصلات شعر هاربة من سطوة عمامته السوداء.