دعيت لحضور فرح بنت أحد الأصدقاء والذى أقيم فى حديقة منزل خال العروس فى الهواء الطلق داخل منتجع كبير يقع فى إحدى المدن الجديدة، والوصول إليه يتم عن طريق أحد الطرق السريعة الجديدة التى شيدت لتصل القاهرة بهذه المدن، وبداية لم يكن الفرح به بهرجة وبذخ ولا طعام مستورد بالطائرة ولا مطربون يتقاضون مئات الألوف من الجنيهات، ولكنه كان فرحًا أنيقًا وجميلاً وقد تركت الفرح فى الساعة الثانية عشرة، وهو ميعاد مبكر فى هذا النوع من الأفراح، واعتذرت إلى سائق سيارتى عن التأخير فى هذا اليوم لأنه معتاد أن ينهى العمل حوالى الرابعة بعد الظهر، وتجاذبنا أطراف الحديث فى طريق العودة، وحقيقة الأمر أنه تربطنى بمعظم الذين يعملون معى صلات ودية وثيقة ولا يوجد فيها تكلف ولا احترام مبالغ فيه وإنما احترام طبيعى متبادل، وأنا أتحدث كثيرًا معه عن أحوال عائلته وعمله ورأيه فى مشاكل مصر السياسية والاقتصادية، كما أسأل أيضًا الممرضات والتومرجية والمرضى والطلبة نفس السؤال، وهذا بالنسبة لى مصدر موثوق به ومهم للمعلومات يقربنى من نبض الشارع وينقل لى مشاعر مصريين يعيشون فى ظروف مختلفة، وقد سألت السائق النوبى المحترم عن الحديث الذى دار بين مجموعة السائقين المنتظرين فى الطرقات المحيطة بالقصر الذى أقيم فيه حفل الزفاف، وقد حكى لى ببساطة وسلاسة ما دار خارج أسوار القصر بينما كنا جميعًا منهمكين فى الأكل والشرب وسماع الموسيقى. بدأ الحديث بأن قال أحدهم إن هناك حوالى سبعمائة سيارة موجودة حول القصر داخل المنتجع فى انتظار خروج المدعوين، والكثير من هذه السيارات كبير وفاخر وأن مجموع ثمن هذه السيارات يستطيع حل مشكلة مئات الآلاف من المصريين الفقراء. وقال سائق آخر إن ثمن الأكل الذى أنفق فى الفرح يكفى إطعام قرية مصرية لمدة شهور، وقال ثالث دعنا ننتقل إلى موضوع آخر فتحدث عن وفاة حفيد الرئيس، فقال إن الشعب المصرى شعب طيب وقد حزن لوفاة طفل وتعاطف الجميع مع أسرة الرئيس، وقال آخر: ولكن هناك آلاف الأطفال تموت كل يوم ولا يسأل ولا يفكر فيها أحد، ثم إن هناك أكثر من مائة طفل لقوا مصرعهم فى حادث العبارة ولم يُعلن الحداد عليهم بل تم تهريب ومساعدة أصحاب العبارة إلى لندن. وقال آخر: المهم أخلاق من تعمل معه، إذا كان رجلاً محترمًا لا يقتر عليك ويعاملك باحترام فلا أشعر بأى حقد عليه، وأتمنى له المزيد من الثراء، وعمومًا نحن نأكل «عيش» من هذا العمل، ولا يجب أن نغتاب الرجل. ورد سائق آخر: انظر إلى الإعلانات الموجودة فى التليفزيون عن فيلات ثمنها الملايين من الدولارات، انظر إلى هذه السيارات بعضها أمامك ثمنه أكثر من مليون جنيه، إن ثمن عشاء واحد يدفعه أحدهم يكفى عائلة معيشة كاملة عدة شهور. أخذت أفكر فى الأحاديث التى دارت بين هؤلاء السائقين الذين يمثلون طبقة تعمل وتكدح لتعيش حياة بسيطة وسط عالم بعضه شديد الترف. لقد حدث تغير كبير فى شكل المجتمع المصرى، كانت الطبقة الوسطى بدءًا من الشريحة العليا ممثلة بكبار الموظفين وأصحاب المهن الحرة كالأطباء والمحامين والتجار متوسطى الحال إلى الطبقة السفلى منها من صغار الموظفين والعمال المهرة، كل هؤلاء كانوا عماد المجتمع فى المدينة وكان الأغنياء طبقة صغيرة والفقراء طبقة كبيرة ولكن ليست بهذه الضخامة الموجودة حاليًا. كان هؤلاء جميعًا يعيشون بجوار بعض فى حى واحد أو أحياء متجاورة فكانت فى العباسية فيلات كبيرة وعمارات للطبقة الوسطى وأحياء فقيرة، وكان الزمالك به فيلات وقصور وعمارات بجوار بولاق الحى الشعبى، وكانت جاردن سيتى بجوار المنيرة والمنيل، كان الشعب يعرف بعضه بعضًا ويعيش سويًا بطريقة أو أخرى. الآن تحولت الأحياء التى كانت فقيرة ولكن محترمة إلى عشوائيات تحيط بالأحياء الغنية التى اختفى منها سكان الطبقة المتوسطة بعد انقراضها، ثم جاءت الخطوات التالية بهجرة الأغنياء إلى منتجعات مسورة تربطها طرق دائرية ومحورية واختفوا داخل الأسوار، يقوم على خدمتهم فيها طبقة فقيرة تسافر بمواصلات صعبة للوصول إلى أسوار المنتجع ثم الدخول فيه، هل يفكر ساكنو المنتجعات قليلاً فى مشاعر الذين يعيشون خارج الأسوار؟ هل يفكرون قليلاً فى تأثير إعلانات التليفزيون؟ وفى قضايا رجال الأعمال المشهورين الذين يصرف أحدهم على مغنية عشرات الملايين من الجنيهات؟ هل يقرأون أفكار من يقوم على خدمتهم؟ ليس فقط مراعاة للمشاعر الإنسانية ولكن حرصًا على أنفسهم وعلى عائلاتهم من مرارة الظلم والفقر والاضطهاد. إن انشطار مصر إلى قسمين أحدهما شديد الغنى يعيش داخل أسوار ومعزول عن مصر الحقيقية الفقيرة والمعدمة هو شىء خطير، وحل المشكلة ليس فى زيادة ارتفاع الأسوار لأن ذلك لن يحميهم وإنما ما يحميهم هو أن يتوقف نهب أموال وأراضى الدولة والسمسرة وتسقيع الأراضى، وأن يقوم الأغنياء بأعمال منتجة ليعمل فيها الفقراء، وأن يراعوا ضميرهم فى رواتب العمال والسائقين فى مصانعهم وبيوتهم، وأن يعرفوا أننا جميعًا أولاد آدم وحواء وعلينا أن نحترم أفقر وأضعف إنسان مصرى.