عندما تقرر تقدمى لانتخابات الخريف المقبل، مديراً عاماً جديداً لمنظمة اليونسكو، كان ترشيحى كفنان كرس كل حياته العملية لخدمة الثقافة، وقد حظى ترشيحى حتى الآن بمساندة ثلاث منظمات إقليمية هى: جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقى والمؤتمر الإسلامى، إلا أن البعض - خاصة فى فرنسا - حمل على صحة هذا الترشيح استناداً لمفردات شفاهة راجت فى الماضى، واتخذ هذا الموضوع مكاناً رئيسياً فى الحملة، لذا أود هنا الرجوع لهذا الحديث تفسيراً وتوضيحاً. فى البداية أطالب الجميع بعدم الخلط، إذ إن هناك معاناة للشعب الفلسطينى، وظلماً يقع عليه يسائلان الضمير العالمى ويثيران - منذ أكثر من نصف قرن - فى البلاد العربية والأكثر اعتدالاً فيها تأثراً عميقاً. وأقول بمسؤولية إننى عبرت عن شعور غاضب لمصير شعب بأكمله حُرم من أرضه وحقوقه، فأى ضمير إنسانى لا يبالى بهذه المأساة؟ قطعاً طوال حياتى لم أحقر ولم أرغب فى جرح أحد ما، حتى لو كانت الكلمات تحمل قسوة شديدة لكن يجب وضعها فى سياقها، وكذا أود أن أذكّر بأننى منذ سنوات أعمل وزيراً فى دولة صنعت السلام مع إسرائيل، وتسعى جاهدة لإعلاء الحوار على العنف. أكرر إننى رجل محب للسلام وأعلم أنه يمر من خلال التفاهم والاحترام، فباسم تلك القيم التى أؤمن بها، أود العودة لتلك المفردات التى قلتها عرضاً فى مايو 2008، والتى أخذت على أنها دعوة لحرق كتب عبرية، والتى كانت صادمة.. وأتفهم ذلك. هنا وبوضوح، أشعر بالأسف لتلك الكلمات التى تفوهت بها، والتى كان يمكننى تبريرها بأعذار التوتر والمضايقات التى سادت النقاش وقتها، ولكنى لن أتذرع بها، خاصة أنها ضد كيانى وما أؤمن به، الأمر الذى أتاح لمغتابى أن يلصقوا بى المساوئ، فليس أبغض عندى من العنصرية ورفض الآخر أو الرغبة فى الإساءة لأى ثقافة إنسانية بما فيها الثقافة اليهودية. (2) لقد قيلت تلك الكلمات دون تعمد أو قصد، وإذ لا أتنكر لمسؤوليتى عنها، فإننى أقول بحرية ودون أدنى ضغط، إن واجبى درء الشبهات برفضى لأى شكل من أشكال الازدراء أو الغطرسة، وذلك تقديراً لمن يكون قد جرحتهم أو صدمتهم تلك الكلمات.. وتعبيراً عن موقفى دون لبس، أود أن أخاطب كل من يتهموننى بألا يقعوا فى فخ الخلط، وأقول انظروا إلى حياتى وشخصى ولإسهامى فى حوار الثقافات والأديان وتعزيز التفاهم المتبادل بين البشر دون تمييز وليس إلى عبارة واحدة.. راجعوا سبعة وعشرين عاماً خدمة من الثقافة وقيّموا هذه الأعمال فى خدمة الإنسان، والإبداع، والكُتاب، والكتب، لقد قمت بافتتاح العديد من المكتبات، حتى القرى الفقيرة فى بلدى من أجل إخراج أكبر عدد ممكن من الأمية ومن الفقر الفكرى، فضلاً عن فخرى بإسهامى فى إعادة إحياء مكتبة الإسكندرية، فمن ذا الذى يعتقد فى أمور الشعوذة التى من شأنها أن تجعلنى منظماً للإعدام بالحرق؟ وأعلم أن البعض ارتضى متشككاً أن يأخذ على موقفى من التطبيع الثقافى بين العالم العربى وإسرائيل والسبب بسيط كون التطبيع لا يصدر بقرار، فهو ينبع من الشعوب حين يصبح السلام بكل ما ينطوى عليه واقعاً فى كل المنطقة. مصر عنصر رئيسى فى البحث عن حل سلمى للنزاع القائم منذ ستين عاماً، والذى يحول دون إرساء علاقات ثقة وتعاون بين شعوب منطقتنا، ودائماً ما اقتنعت وخدمت اختيار بلدى، ويشرفنى أن أقدم إسهامى فى حدود إمكانياتى بهذا الجهد لإرساء أسس سلام عادل ودائم بين دول منطقتنا، فمنذ أسابيع قليلة وبناء على دعوة منى لقيت أشكال المعارضة المختلفة، قاد دانيال بارنبويم أوركسترانا السيمفونى، وقدم حفلاً موسيقياً بالقاهرة، لذا فالهجمات العنيفة التى تستهدفنى فى الأوساط الأقل تسامحاً فى بلادى تشهد بحقيقة هذا الالتزام، إن إخفاقى سيكون نصراً لهم، والانفتاح الذى أنادى به سيرونه خدعة. كفانا الحديث عن الماضى، ولنتوجه نحو المستقبل، فما هو إذن برنامجى؟ ولماذا أنا مرشح لليونسكو؟ نعتقد أن المنظمة تحتاج إلى روح جديدة، مؤسسوها سعوا لتكون مقراً للقاءات والمناظرات ومبادرات البناء فى أرواح وعقول البشر، ومعاقل للسلام، وفى رأيى أن المهمة الأولى التى يجب أن ينشغل بها المدير العام الجديد هى إعادة إحياء هذا الطموح، ضماناً للتأكيد على التنوع الثقافى وحوار الثقافات والتصالح المتبادل فى الوقت الذى يتضاعف فيه توتر الهويات. (3) وذلك يحتم تطوير أهداف وأساليب عمل المنظمة، التى لم يعد يمكنها الاكتفاء بالقيام بدور وكالة فنية بسيطة تنشر مواردها لتقديم مساعدات منتظمة. ولذلك فمن الضرورى أن نتناول بالبحث العميق إصلاح آليات عمل المنظمة دون السعى إلى قيادة أو هيمنة معيارية أو نموذجية أخلاقية أو فكرية.. وبكل تواضع وفعالية، فإن اليونسكو عليها العودة كعنصر أصيل على الساحة الدولية فى مجالات اختصاصها (التعليم والتأهيل، الحفاظ على التراث ودعم الإبداع الثقافى، الحيوية العلمية، النقاش الفكرى)، ويجب أيضاً أن تنفتح على القضايا الراهنة، مثل: البحث عن نموذج جيد ل«العيش معاً»، إيجاد حل للتحدى المناخى، طرح سلوكيات بيئية جديدة، قواعد جديدة تواصلاً مع القضايا الأخلاقية المرتبطة بالحياة وتطبيقاتها، إلخ. اليونسكو هى بامتياز مقر لحوار الشعوب، يتيح تجاوز الاختلافات السياسية والدينية، والعرقية، واللغوية، وفى الوقت الذى يجب فيه التعبئة ضد قوى الرجعية والانغلاق المجتمعى النشطة فى كل مكان، فإن اختيار عربى، مسلم، مصرى - وبغض النظر عن شخصه - سيمثل رسالة أمل عظيمة على المحك، كما أنه يعطى مضموناً حقيقياً للتنوع الثقافى الذى كثيراً ما نتحدث عنه، ولكنه لسوء الحظ لايزال فى كثير من الأحيان مجرد شعار، أتصور أننى على مستوى هذا التحدى، وآمل أن تكون مقترحاتى محل اقتناع الدول الأعضاء، وأعتقد أن الثقافة مثلها مثل الاقتصاد، هى عنصر حيوى من عناصر هذا النظام الدولى الجديد، باتت أكثر إلحاحاً من أى وقت مضى، ولدى يقين قاطع بأن السلام لا يمكن فصله عن الثقافة.