تسمع كثيراً هذه الأيام مصطلح «الأمن القومى» يتردد فى أكثر من مناسبة، وفى جميع الأحوال تجد ربطاً مباشراً بين مفهوم الأمن القومى وحدود الدولة، حتى بالغ البعض فى اختزال سلامة الوطن فى أمان الحدود، واعتبروا أن هذا الأمان، وتلك السيادة على الحدود، يأتيان على قمة أولويات نظرية الأمن القومى. هذا الربط بلا شك ذو وجاهة وأهمية لا يمكن إنكارها، ولكن إذا ما رتبت أولويات الأمن القومى حسب احتمالات التهديد، وفداحة الخسائر من هذا التهديد، ستجد أن مفهوم الأمن القومى فى مصر لابد أن يرتبط بثلاثة محاور أساسية لابد أن تتصدر أولويات صانع القرار، أولها مياه النيل وضمان تدفقها، واحتواء جميع التوترات حولها بما يضمن استمرار هذا التدفق دون عوائق، باعتبار أن فى ذلك تهديداً مباشراً للحياة، والثانية هى حالة السلام الاجتماعى بين عناصر المواطنين، وتركيباتهم المختلفة دينياً وعرقياً، وهو ما يسمى فى مصر ب«الوحدة الوطنية»، باعتبار أن أى منغصات تعوق سلامة هذه الوحدة تمثل تهديداً صارخاً للسلام الاجتماعى وبالتالى للأمن القومى، وثالثاً يأتى «أمان الحدود» وضمان سلامتها. تستطيع ببساطة أن تعتبر هذه المحاور الثلاثة هى «مثلث الخطوط الحمراء» لنظرية الأمن القومى المصرى، وأن تحاسب صانع القرار عن الأضلاع الثلاثة لهذا المثلث جملة ودون تقطيع، وأن تراه يمارس دوره على تلك المحاور الثلاثة الأساسية بذات الكفاءة والجدة والإصرار، لا يفرق بين أحد منها. لكن اللافت أن الدولة تمارس هذا الدور بتلك الكفاءة فقط فيما يخص الحدود، وفى هذا تهديد بالغ للأمن القومى، خاصة مع انفجار ملف مياه النيل بمزيد من التوترات والخلافات والتدخلات، ومع تزايد المشاحنات الطائفية والممارسات التمييزية فى المجتمع، ولك أن تتخيل إذا كنت صانع القرار وأمامك خيار من اثنين، أن تخوض حرباً لتسترد قطعة أرض محتلة من بلادك، أو تخوض حرباً لضمان تدفق مياه النيل، الأرجح أنك تعرف أن الحياة فى هذا الوطن لن يهددها احتلال قطعة أرض بقدر ما سيهددها انقطاع تدفق المياه، كما أن الحياة لن تهددها الأرض المحتلة بقدر ما سيهددها تصاعد الصراعات الطائفية إلى حالة أقرب لحرب أهلية. هذا فى النهاية افتراض، الهدف منه أن تدرك أن هذه الدولة التى تتحدث عن «أمان الحدود» بحماس، والحق أنها تحميها ب«كفاءة» أيضاً، لابد أن تمارس الأمر نفسه بذات الحماس والكفاءة مع ملفى مياه النيل والوحدة الوطنية، ومناهج التعليم التى تشرح للطلاب مفهوم الأمن القومى بأنه فقط «سلامة الحدود»، لابد أن تتوسع ليعرف جيل جديد أن هناك مخاطر فى الجنوب ذات أولوية مماثلة، ومخاطر على السلام الاجتماعى لا تقل أهمية عن «أمان الحدود»، فيخرج لديه قناعة كاملة بقداسة «الوحدة الوطنية» ومياه النيل، مثلما يقدس شرف الحدود. يكفى أن أخبرك أن التعريف الرسمى للأمن القومى ينص على أنه «عملية محلية مركبة تحدد قدرة الدولة على تنمية إمكاناتها، وحماية قدراتها، على جميع المستويات، وفى شتى المجالات، من الأخطار الداخلية والخارجية. وذلك من خلال جميع الوسائل المتاحة، والسياسات الموضوعة، بهدف تطوير نواحى القوة، وتطويق جوانب الضعف، فى الكيان السياسى والاجتماعى للدولة، فى إطار فلسفة قومية شاملة تأخذ فى اعتبارها كل المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية». المسألة إذن ليست حدوداً، وفقط كما ترى. [email protected]