فى طريق عودتى لمنزلى بعد ساعات عمل متصلة قاربت من العشرين فى تصوير فيلمى الجديد كنت أستحث الشوارع وأتوسل للزحام وأقبل الأرض تحت أقدام سائقى السيارات كى يسمحوا لى بالوصول لمنزلى أو بالأحرى فراشى.. وبعد عناء وصلت لهذا الحلم وارتميت على سريرى دون أن أبدل ملابسى متصورًا أن النوم لن يجادلنى لحظة.. فإذا به لم يأت.. فقلت لعل عادتى فى أخذ حمام قبل النوم هى السبب، فأخذت حمامًا ساخنًا وأويت لفراشى فإذا بالنوم يذهب سدى ويحل محله الأرق. وقد علمنى أبى أن أجاهد ضد كل السلاطين الجائرين عدا سلطان النوم الذى إن أبى الحضور أرسل له التحية والسلام وأترك فراشى فورًا.. وقمت لا أعرف ماذا يمكننى عمله الآن حتى يطلبنى السلطان فأمتثل وأستقر فى رحابه، وإذا بعينى تقع على صحف اليوم التى تأتى لى بشكل روتينى حتى فى أيام التصوير التى لا أقرأ فيها أى شىء مكتوب سوى سيناريو الفيلم الذى أصنعه، وهذه عادة من العادات التى اكتسبتها دون أن أدرى من أستاذى «يوسف شاهين» وأفاجأ بكل مانشيتات الصحف المستقلة والمعارضة- وليست القومية طبعًا- تنشر خبرًا على لسان الدكتور البرادعى يعلن فيه نيته للترشح لرئاسة مصر إذا كانت الانتخابات حرة.. فإذا بى تتهلل أساريرى وسعدت سعادة بالغة دون تفكير. كان ضروريًا بعد برهة أن أسأل نفسى: لماذا كل هذه الفرحة؟!.. فالرجل قبل هذه اللحظة لم يكن يمثل لى أكثر من مواطن مصرى افتخر بوطنه وعاش إلى اليوم الذى رأى فيه هذا الوطن يفتخر به.. مع أن هذا ليس قليلاً ولكننى وجدته ليس كافيًا لكل هذه الفرحة خاصة أنه يشترك فى هذه الصفة مع عدة أشخاص، فأشعلت سيجارة ودخلت لمطبخى كى أصنع كوبًا من الينسون، يعيننى على النوم، وأؤجل هذا التفكير الذى قد يحتاج إلى لياقة ذهنية إلى ما بعد حصول الجسد على جرعة نوم يخلد فيها للراحة الوسنى فتستفيق ميكانزمات الحركة داخل دماغى فأحلل وأصل إلى نتيجة أرضى عنها. وإذا بالذهن هو الآخر يتمرد علىّ ويحلل رغمًا عنى ويبحث دون إرادتى عن أسباب هذه الفرحة ويقول لى: يا أيها الرجل البليد.. كنت أعتقد أن فراستك ستدلك دون عناء.. فالأسباب واضحة وضوح السماء لأى ناظر لها على كوكب الأرض.. أقل هذه الأسباب أن هذا الرجل هو الوحيد وأكرر.. الوحيد- وذلك من سوء الأقدار وتعاسة حظ مصر- الوحيد القادر دون إشراف قضائى أن ينزل إلى حلبة الصراع ولا تستطيع الحكومة أن تزوّر الانتخابات تزويرًا مفضوحًا كعادتها، فكل العيون الدولية ستكون مفتوحة ومستعدة ومتحفزة، وفى انتظار فضيحة مثل هذه، وبالضرورة هذه الفضيحة، لو حدثت، ستقضى حتمًا على مستقبل هذا النظام. وثانيًا أن هذا الرجل سوف يحرك الكتلة الصامتة التى تمثل فى كل الانتخابات مصر السابقة وعبر عقود عديدة أكثر من 70٪ من أصوات الناخبين، وهؤلاء لم يذهبوا أبدًا لصناديق الاقتراع، ويمثلون الأسد الرابض كاظم الغيظ فى انتظار فك محبسه.. لن تخرج هذه الأغلبية يوم الاقتراع إلا لشخص مثل البرادعى لثقتها بأن خروجها هذه المرة سيغير فى الأمر الكثير، ثم إن الرجل يستحق هذا الخروج، فقد أثبت عبر تاريخه عن صرامة ومواقف عادلة فى ظل اختلال موازين القوى فى العالم وانفراد السيد الأمريكى بمقاليد الأمور فيه، إلا أن هذا الرجل استطاع- وهو على رأس منظمة دولية كانت عبر عقود عديدة أسيرة للقرار الأمريكى وأهوائه ومصالحه- أن يقف إما عقبة فى طريق الهوى الأمريكى مثل إيران، أو كاشفًا لظلمه وتجاوزه لكل القوانين والأعراف الدولية مثل العراق. وحتى لا يتهمنا أصحاب العقول المفكرة من أصحاب شعار «من أجلك أنت» بأننا نضخم الأمور ونعظم قدر الرجل ونجعله فى مصاف الزعماء التاريخيين الذين يصنعون أمجادهم وسط شعوبهم بالنضال وبالكفاح، فإننا نقول إن البرادعى بكل قامته وقيمته ليس أكثر من الرجل الذى فى اعتقادى «معه موعد مع القدر» لأنه إن فاز عن طريق صندوق الاقتراع ستتحول هذه البلاد- وهى تستحق أكثر من ذلك- إلى بلاد ديمقراطية تتداول فيها السلطة، وسيحدث حراك سياسى جدير بخلق تيارات سياسية فاعلة وسط الشارع، تستطيع أن تؤثر فيه وتستقطب قطاعات منه، وتصبح مؤهلة لمنافسته على الحكم ولن ترى قمعًا لهذه التيارات أو تصفية لها، لأن رئيس البلاد حينها سيكون رجلاً ديمقراطيًا جاء بإرادة الناس، وتصبح كلمة الشعب هى العليا، وكلمة الحاكم هى الناطقة بها والمحققة لأهدافها.. وستكون فترة ولايته هى الفترة الانتقالية القادرة على خلق طاقات الأمل فى قلوب الناس، وستكون هى التى تضمن عدم ارتماء الناس فى أحضان التيارات الدينية ليس حبًا أو انحيازًا لها ولكن كُرهًا فى النظام ومقتًا لسياساته التى وضعت الناس بين مطرقة الفقر والمرض وبين سندان القهر والاستبداد، حينئذ نستطيع أن نتخلص من الفزاعة التى يرهبون بها أمثالى من أنصار المجتمع المدنى والتى تتلخص فى أن الانتخابات الحرة بالضرورة فى مثل أوضاعنا تأتى بالتيار الدينى للحكم ليقضى على فكرة الدولة المدنية التى نستظل بظلها ونحتمى بها من حالة تصحر تُرجع الحضارة للوراء. إننى أرى أنه الشخص المناسب الذى يستطيع أن ينتقل بالبلاد إلى مرحلة انتقالية آمنة يقرر فيها الناس انحيازاتهم دون قهر.. فإن كان الشارع يساريًا أو يمينيًا أو ليبراليًا فلتنتصر مشيئة الناس التى هى من مشيئة الله. وفى غمرة تدفق هذه الأفكار استوقفنى ذهنى بقوله: قبل أن تفكر.. ماذا لو وصلت بجاحة النظام إلى تزوير الانتخابات ضاربًا بعرض الحائط كل ما قلته عن الأغلبية الصامتة أى الأسد الرابض كما سميته أو العيون الدولية؟ بادرنى بقوله: يا أيها البليد لو وصلت حماقة النظام إلى هذا الفعل فإنه بالضرورة الحتمية يكتب شهادة وفاته رسميًا، ولن تترك هذه الجماهير الشوارع حتى ينجلى هذا الظلام أو النظام.. سمه ما شئت.. وسوف يساندها رأى عام عالمى- استطاع مثلاً أن يفعل الكثير بنا فى قضية فلسطين لأنه غير مقتنع بحقوقنا بشكل واضح أو فى أقل التقديرات لم نستطع أن نصل له ونفهمه قضيتنا- بل إن أمريكا بجلالة قدرها لن تستطيع حيال ذلك إلا أن تؤيد وتساند صوت الحق كى لا تنكشف سرًا وجهرًا قلبًا وظهرًا، أو فى أسوأ التقديرات لن تمد يد العون لنظام بات أمام أعين العالم كله بكل الدلائل الواضحة والدامغة مزورًا لإرادة ناسه وشعبه. وبعد أن استفقت من مباغتة ذهنى، وجدت نفسى أطرح عليه سؤالاً: هل عقمت مصر على إنجاب العشرات الذين يستطيعون أن يحملوا أمانة هذه الأمة وتتجمع حولهم إرادات الناس؟!.. فإذا به يصفعنى بحجته السريعة.. حاشا لله أيها النابه- نعتنى هذه المرة بالنابه وليس البليد- حاشا لله أن تعقم أمّة بحجم وعظمة مصر. إن مصر بها مئات، على أقل تقدير متعسف، قادرين على قيادتها.. ولكن لا تنس أن الظروف الموضوعية سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية التى مرت بها البلاد عبر أكثر من ثلاثة عقود جعلت من تواصل أو وصول أى شخصية تقدر على تلك المسؤولية لجموع الناس أمرًا مستحيلاً.. فها هو النظام قد ساهم فى تخريب أحزاب المعارضة وقضى على أى أمل لبزوغ نجم سياسى سواء داخل هذه الأحزاب أو خارجها يصل إلى مسامع أو أذهان أو أفئدة الجماهير، وأقول ساهم كى أكون دقيقًا لأن هناك أسباباً موضوعية وذاتية داخل هذه الأحزاب قد خربتها.. وبالتالى تجربة التعددية الحزبية فُرِغت من محتواها وعظمة مضمونها، ناهيك عن حالة يأس مطبق انتابت الجميع من إمكانية تداول السلطة جعلت المجتمع يقدم شهادة استقالة من المستقبل. وبعد كل هذه الأسباب التى صفعنى بها ذهنى واحدًا بعد الآخر.. رأيتنى أطالب نفسى قبل غيرى بالمشاركة فى هذه الحملة، وأن سبب عدم تحمسى من قبل رغم كل الدعوات التى طالبت بترشيح البرادعى، هو شكى فى قبول الرجل هذه المسؤولية وهذا الحمل.. وما إن أعلن الرجل حتى بات يقينى بأنها أصبحت مسؤوليتنا جميعًا أن نشد من أزره ونفتح له قلوبنا ونمد له أيدينا ونتجمع من حوله فإنى أرى الإرادة المتجمعة كما وصفها الأديب يوسف إدريس فى قصته «سِرُّه الباتع» وقال «إن المصريين عندما يتجمعون فإن أجسادهم تفرز مادة سحرية فيها جماع كل ما هو قادر وقاهر وجماع كل ما لا يمكن مقاومته».. فليكن البرادعى مثل «السلطان حامد» بطل رواية يوسف إدريس الذى تجمعت حوله الإرادات إبان الحملة الفرنسية، والتقت فى بؤرة صنعت إكسيرًا سحريًا قادرًا على تحقيق المستحيل. ولنشعر جميعًا بعظمة وروعة أن نكون بشرًا نمتلك القدرة المعجزة.. قدرتنا على أن نتجمع ليصدر عن تجمعنا ما هو أسمى من حياة كل منا. أتمنى ألا تضل مقالتى هذه طريقها فى الوصول لمقاصدها فأجدها وصلت فقط وخطأ لجهات حكومية تتحرك فى الاتجاه المضاد الذى يجهض حدوث هذا الاحتمال وتحشد كل طاقاتها لنسف حدوثه من الآن.