■ الطائرة المتجهة إلى عمان تقطع المسافة فى ساعة وبضع دقائق، أى أن سكان مصر الجديدة مثلى يمكنهم الوصول إلى الأردن بأسرع من الوصول إلى 6 أكتوبر. عندما وصلنا كانت الأمطار تهطل بغزارة غسلت الشوارع حتى فى الأحياء الشرقية الأفقر فى العاصمة. قررت ألا أقارن أمطار عمان بأمطار القاهرة وأوحالها، ولا حالها بحالها. أمطار عمان تؤذن للناس ببشرى موسم زراعى خصب فى بلد يعتبر من أكثر عشرة بلدان جدباً فى العالم. فى اليوم التالى تصدرت الصحف عناوين مبهجة.. أكثر من مليون متر مكعب من المياه احتجزتها الخزانات والسدود، ومحصول الزيتون سينمو بأكثر من الربع عما كان عليه فى العام الماضى. عندما وصلت بنا السيارة إلى وسط المدينة فقأ عيوننا مشهد ناطحات السحاب التى ارتفع بعضها كالخوازيق لنحو أربعين طابقاً. حسرتى كانت أن هذه ليست عمان التى أعرفها.. أحببتها منذ ما يزيد على 40 سنة ببيوتها التى قدت حجارتها البيضاء من صخر الجبل، التى لم يكن يزيد ارتفاع أطولها على ثلاثة طوابق.. كانت ذلك فى عام 1968.. استعارنى التليفزيون الأردنى عند قيامه للعمل مستشاراً لمدة 6 أشهر.. مثل هذا العمل محصور بالطبع وراء الشاشة.. لم تمض أيام حتى طلب منى مدير التليفزيون الراحل الكبير محمد كمال أن أقدم برنامجاً شبيهاً بذلك الذى كنت أقدمه وقتها فى التليفزيون المصرى «أقوال الصحف».. ترددت، ثم قبلت تحت ضغوط، وقدمت الحلقة الأولى.. مضت أيام بعدها دون أن أسمع من أى ممن حولى صدى.. ما إن نقلت دهشتى إلى المدير حتى سارع يطيّب خاطرى.. لن تمضى أيام حتى نسوى الأمر مع دولة الرئيس أبوعدنان.. ودولة رئيس الوزراء بهجت التلهونى!!.. نعم.. عندما أذيع البرنامج تصادف أن شاهده الأمير الحسن بن طلال ولى العهد الذى كان وقتها نائباً للملك حسين خلال غيابه فى القاهرة.. تعجب الأمير أن يظهر على الشاشة دخيل يفتى فى شؤون البلد، فأمر بإيقاف البرنامج. فى نفس الليلة كان التليفزيون المصرى يستضيف الملك فى حديث مطول صعد بعده إلى مكتب وزير الإعلام الأستاذ محمد فائق الذى أوصاه بى خيراً. بعد عودته بيومين أتانى الأستاذ إبراهيم عزالدين المستشار الإعلامى للديوان الملكى الذى امتدت بينى وبينه صداقة نادرة الصفاء طوال تألقه فى مناصب السفارة والوزارة حتى يومنا هذا. كان قد جاء حينها ليبلغنى أن جلالته أمر بتعيينى مستشاراً لدائرة المطبوعات. حل حكيم من ملك كانت له براعة مشهودة فى مواجهة المشكلات الكبرى والصغرى. قرار لن يخدش تعليمات ولى عهده ولن يكسر أنفى. اعتذرت شاكراً. صحيح أنى عملت بالصحافة بضع سنوات لكن خبرتها لا تؤهلنى للمنصب المعتبر. حزمت حقائبى صباح اليوم التالى وعدت إلى القاهرة. قرار الأمير الحسن لم يكن حينئذ مستغرباً.. كنا وقتها فى عصر ما قبل الفضاء، قبل أن تظهر على الشاشات العربية التى كسرت حجب المكان والزمان وجوه من كل جنس وملة تتعرض لكل شؤون الأمة بلداً بلداً تمجيداً وهجاء. الآن نحن فى زمن آخر أمسك الأردن بمقاليده بامتياز. لديهم الآن واحدة من أكثر المدن الإعلامية العربية الحرة التسع تميزاً، يقودها مهندس الإعلام الأبرز فى جيله راضى ألخص. بفضل تكلفة تشغيل اقتصادية وهامش حرية نسبى، تنطلق الآن من هذه المدينة 215 قناة فضائية عربية إضافة إلى ثمانى قنوات أردنية خاصة، تتنافس على دخل إعلانى يقدر ب300 مليون دولار سنوياً، لكن حوتاً كبيراً يتأهب لبدء الإرسال فى أول يناير باسم ATV ذهلت عندما زرت استوديوهاته التى جهزت بأحدث معدات فى العالم، حتى إنه يقال إن تكلفته تربو على مائة مليون دولار. قررت، كما قلت فى بداية المقال، ألا أقارن ما فى الأردن بما فى مصر، وإلا أتحت لباشكتبة السلطة فرصة أخرى ليجودوا علينا بفيض من قريحتهم الجذابة (بالجيم لا بالكاف) ويمطرونا بسيل من موضوعات الإنشاء عن الحياة البمبى فى ظل الحزب المسخسخ، لكن رصد أحوال الأردن كما رأيته فى الأسبوع الماضى لا يستقيم دون أن نعرف أنه بلد لا يملك أى ثروة سوى الفوسفات وبعض يورانيوم لم يستثمر بعد. ربما لذلك اتجهوا إلى ثروة البشر. نسبة الأمية كانت 7.7٪ فقط فى العام الماضى. فى عمان يرددون الآن كثيراً قصة عائشة العوايشة التى بلغت من العمر 42 سنة، ومع ذلك فقد درست فى واحد من مراكز محو الأمية ال473 وتتأهب الآن لنيل درجة الماجستير. الأمر ليس مقصوراً فقط على محو الأمية. التعليم يضاهى فى كفاءته، حتى وإن كان حكومياً، أفضل مستويات التعليم فى المنطقة، ولا توجد عائلة أردنية إلا واجتزأت من دخلها مهما تدنى ما يكفى لإرسال واحد من أبنائها إلى الخارج للحصول على شهادة عليا. فى ميادين أخرى عديدة يتفوق الأردن رغم الفساد ورغم حكم الأمن المتسلط. لديهم حكومة إلكترونية حقاً، بالمقارنة بمصر التى ليس لديها سوى رئيس حكومة إلكترونى اكتفى من الإنجاز بقرية ذكية. لديهم صناعة نسيج أقلقت الصناع المصريين. لديهم سياحة مزدهرة. بالرغم من الأزمة المالية العالمية أبلغتنى الدكتورة مها الخطيب وزيرة السياحة التى تتوقد حيوية أن عدد السياح فى العام الماضى بلغ خمسة ملايين. رقم يخجل مصر التى زارها 14 مليون سائح، وهى التي لا يقارن بها بلد عربى عراقة وآثاراً وثقافة وترفيهاً وسحراً. فى الأردن أيضاً أكثر من 75٪ من السكان يغطيهم تأمين صحى كفء، وفيه 8 مراكز طبية متقدمة فى تخصصات دقيقة أصبحت قبلة المرضى العرب، يقودها أطباء أردنيون متفردون لابد أن كثيرين منهم تخرجوا فى الجامعات المصرية. يبدو أن إخواننا الأردنيين تفرغوا لما هو أهم، وتركوا العمل اليدوى للمصريين كالعادة. هناك الآن نحو نصف مليون مصرى، بينهم 350 ألفاً يعملون بالزراعة، حتى إنه يقال لولا المصريون لما كانت هناك زراعة فى الأردن. معظم الباقين حرفيون فى مجالات البناء المختلفة. أما مهنة البوابين فقد احتكرها المصريون. أكثر من نصف أصدقائى الأردنيين لديهم «حارس» مصرى، البعض منهم منذ 20 عاماً. يثنون دائماً على إخلاصهم ودماثتهم. الحمد لله أن مصريى الأردن ليسوا كمصريى ليبيا الذين يشكلون أكبر نسبة من المتسولين. مذكرة التفاهم التى تم توقيعها مؤخراً بين الحكومتين المصرية والأردنية تنظم دخول العمالة المصرية بناء على احتياجات السوق المحلية من حيث الأعداد المطلوبة والقطاعات التى سيعملون بها. المصريون عموماً لا يثيرون المشاكل عادة، لكن مشكلات عدد كبير كهذا لا تنتهى. المشكلة التى كانت قائمة عندما زرت عمان كانت خارج سيطرة الجانبين. فى مدينة إربد تم القبض على 64 مصرياً كانوا مقيمين بعقود عمل -يسمونها أذون استقدام- زائفة، مع ذلك فإن سفير مصر اللامع فى عمان عمرو أبوالعطا يقر بأنه ما من مشكلة إلا وعالجتها السلطات الأردنية بكثير من الاعتبار لمصر وأهلها. لا يفوق العراقيين والمصريين فى الأردن عدداً ووزناً سوى الفلسطينيين.. هذا أمر طبيعى فى بلد التبس منذ قيامه ما هو أردنى بما هو فلسطينى. نصف سكان البلد الذين يقتربون الآن من الستة ملايين من أصل فلسطينى، ولنسبة كبيرة منهم حقوق مساوية للأردنيين وفقاً لمعادلات معقدة. بينهم علاقات عائلية متشابكة وتاريخ طويل مشترك وإدارة أردنية مباشرة للضفة الغربية لسنين طوال من القرن الماضى، لكن الضغط الشعبى يدفع السلطة دائماً إلى مد حبل سرى لا ينقطع مع غزة أيضاً. عند عدوان إسرائيل المروع على القطاع فى نهاية 2008 أرسل الأردن إلى هناك مستشفى ميدانياً عسكرياً لا يزال يعمل حتى الآن، عالج 146 ألف حالة. مرة أخيرة لا أريد أن أقارن بين الأردن ومصر. كل منهما تربطه بإسرائيل اتفاقية سلام، مهما كان رأينا فيها فهى أقل خطورة من العلاقات الرسمية المخزية. فى حين أننا الأكثر قدرة والأكبر مكانة نجد أننا نغلق معبر رفح دوماً فلا يفتح إلا بمقدار، ونحتجز قوافل الإغاثة العربية والدولية، وندمر الأنفاق على الحدود مرضاة لإسرائيل وأربابها. فى الأردن مزاج عام معاد لإسرائيل أكثر حدة من المزاج المصرى، أو على الأصح مزاج النخبة المصرية التى انتكست فبدأت تناقش من جديد تعريف التطبيع، رغم أن البضائع الإسرائيلية دائمة التسلل للأردن بعد إخفاء شهادات المنشأ وتزوير الإشارات الدالة على المصدر، فإن حملات مقاطعتها التى تقودها النقابات المهنية فى العادة مستمرة دائماً. هذا الأسبوع كانت نقابة المهندسين تجدد الحملة، المهندس «ليث شبيلات» هو رمز المقاطعة منذ زمن وهو السياسى الأردنى الأول المستهدف من جانب إسرائيل وأصدقائها وعملائها. فى الأسبوع الماضى اعتدى عليه بعض البلطجية بالضرب فى قارعة الطريق جهاراً نهاراً، وتداولت الأخبار قصة غير محبوكة تقول إنه حدث اشتباك بين الطرفين لم يتضح منه تماماً من الذى تحرش بالآخر، لم يبلع هذه الرواية أحد، شبيلات شخصية يعرفها كل أردنى، وله قدر ووزن ليس لدى الناس وحدهم وإنما لدى السلطة أيضاً، حتى إنه حين اعتقل فى إحدى المرات ذهب الملك حسين بسيارته إلى السجن واصطحبه إلى بيت والدته، لا.. أنا قلت إنى لن أقارن، ولذلك فإننى على وشك أن أقسم لكم أنه لا يدور ببالى مشهد أرى فيه الرئيس مبارك يأخذ سيارته إلى السجن ليصطحب الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح إلى عائلته. كل ما أردت قوله أن مقاطعة إسرائيل ومعاداة أمريكا، بالرغم من أثمانها الباهظة أحياناً فهى لم تلو عنق شبيلات ولا هدت من عزيمته وهو فى الستينيات من عمره، الأمر نفسه ينطبق على الشباب أيضاً، طلبت منى إذاعة «حياة fm» وهى واحدة من 32 إذاعة أردنية خاصة، إجراء حديث فسألت عن الذين ورائها، قيل لى هناك مجموعة شباب يعملون فيها منذ بضع سنوات جعلوا منها منبراً لإطلاق مبادرات نافعة للمجتمع، رغم أنهم ضحوا بأى مورد إعلانى إذا كان عن بضاعة أمريكية، ذهبت لهم من فورى قبل الثامنة صباحاً، قبل أن ألتحق بالمؤتمر الذى دعيت له. كل ما قضيته فى عمان 60 ساعة مع ذلك أتيح لى أن ألتقى بالصديق ثابت الطاهر وزير الاقتصاد الأسبق مدير مؤسسة عبدالحميد شومان، عائلة شومان هى مالك البنك العربى أقامت المؤسسة بهدف التنمية الثقافية، وفى هذا الإطار دعتنى منذ بضع سنوات لإلقاء محاضرة عن الإعلام، وهاهم يجددون الدعوة لإلقاء محاضرة أخرى يرجون أن يراعى موضوعها وضعهم الحساس، حساس لأن قضايا رُفعت فى أمريكا ضد البنك تتهمه بتمويل الإرهاب، لأن له فروعاً فى الأراضى الفلسطينية تتم من خلالها بالطبع تحويلات لفلسطينيى الداخل، لم أسمع ببنك يسأل عن هوية صاحب التحويل وانتمائه السياسى، إلا أن التحويلات للفلسطينيين أصبحت اليوم جريمة، يموت الفلسطينى جوعاً لا يهم المهم ألا يحوَّل له سنت واحد. لكن الضغوط على بنك أردنى أمر هين الأكثر خطورة هو الضغوط على الحكومة الأردنية. الضغوط الأمريكية على الأردن تزداد ليمشى فى ركب أمريكا التى توهمنا بسلام لن يتحقق على يد أوباما، خدعته يتحدث عنها كل الناس هنا، بعد أن علق عليه السذج منا الآمال، إذا بنا نخرج صفر اليدين حتى نداؤه بوقف الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات أسقطه فور ذلك. صمت الأردن وصمتت مصر وعندما نطق أبوالغيط كان تخاذله مهيناً قال إن «الرؤية المصرية هى أننا يجب أن نركز على نهاية الطريق، ويجب ألا نضيع الوقت فى التمسك بهذا الأمر أو ذاك كبداية للمفاوضات» كان قادماً من المغرب الذى تدافع إليه وزراء الخارجية العرب ليحيطوا بوزيرة الخارجية الأمريكية، كأنما هم مراهقون من هجانين المشاهير كل أملهم التقاط صور مع نجمتهم المفضلة. إحباط كبير فى الشارع الأردنى يماثل ذلك الذى فى مصر وسائر دول العرب. ليس إحباطاً من أمريكا بقدر ما هو إحباط من القيادات العربية أقسم لى صاحبى أنه على يقين أن الأقصى سينهار، وقال إنه يعرف سلفا ما سيجرى، سيطالب الكل بعقد قمة فورية، يلتئم شملها بعد عشرة أيام على الأقل.. ربما تنعقد القمة فى الأردن.. سيقترح أحدهم أن تعقد على ضفاف البحر الميت، لكن الغالبية المنبطحة سترى فى هذا تحدياً لإسرائيل القابعة على الشاطئ المقابل.. سيدعو آخرون إلى قمة فى الدوحة، ثم يغلب التصالح فى النهاية فتنعقد فى شرم الشيخ.. هناك سيقررون اللجوء إلى المحافل الدولية، وفى نهاية المؤتمر يصدر عنهم بلاغ فى غاية الغضب بل هو أقرب إلى التحدى عنوانه: من أجلك أنت.. يا أقصى. ■ قنبلة الموسم السياسية هى إعلان الدكتور محمد البرادعى أنه لا يستبعد ترشيح نفسه للرئاسة إذا جرت الانتخابات بحرية ونزاهة، فى حين تصدر الخبر كل الصحف اليومية الخاصة نجد أنه غاب تماماً فى الصحف المسماة بالقومية، هل هذه مبادئ الصحافة التى تعلمها باشكتبة السلطة؟ وهل هى حقاً صحافة يملكها الشعب؟ أم أن النظام يخشى أن يهتز عرشه عند انتشار الخبر؟