يجلس فى ميدان عبدالمنعم رياض، على بعد خطوات من مقر الحزب الوطنى، تحاصره لوحات الحزب الخضراء التى تذكره أنها «من أجله هو»، بينما انشغل هو فى الجلوس قليلا على كورنيش النيل ليشرب كوبا من الشاى من أبو زياد استعداداً لاستكمال عمله، سيد يونس عباس «46 عاما» رجل من المفترض أن ينتمى للطبقة المتوسطة بحكم عمله الصباحى كموظف فى إحدى الوزارات، يخرج من عمله فى الثالثة ظهرا ويستريح قليلا فى الشارع قبل أن يبدأ عمله مرة أخرى ك«نقاش» و«عتال» فى المخازن. «سيد» يعتبر نفسه رجلا على باب الله، لا تعلم عنه الحكومة وحزبها شيئا، ولا يدركون حجم المعاناة الحقيقية التى يعانيها كى يوفر. يخرج سيد من منزله فى شبرا فى ال خامسة والربع صباحاً، قاصداً عمله فى إحدى الوزارات يحصل شهريا من تلك الوظيفة على 404 جنيه، تم خصم نصفها بداية من الشهر الماضى حتى يستطيع أن يدفع أقساط جهاز ابنته هبة «18 سنة» التى تمت خطبتها منذ شهرين، خطيبها كما يصفه سيد «أهو واحد جدع م الحته، لسه بيدرس فى ثانوى، وشغال سواق فى شركة خاصة، وأبوه عنده قهوة، قاللى هنتجوز بعد سنتن قولت له ربنا يعينك، المهم أنا عايز شقة مطرحين لبنتى وبيدور على حاجه إيجار فى الخصوص ولسه ملقاش، وأدينى بتداين من دلوقت، عشان ألحق أخلص تكاليف جهاز البت خلال السنتين دول». بعد انتهاء يومه الوظيفى يعود سيد إلى ميدان عبدالمنعم رياض للعمل كنقاش وعتال فى المخازن، ليعود إلى بيته بعد 6 ساعات عمل إضافية ومعه 20 جنيها تكاد تكفى أبناءه: هبة، محمد، بوسى، عبير، يحاول أن يوفق بالعشرين جنيها طلبات الجميع، فعبير تفرض عليها مدرستها الابتدائية دخول مجموعة تقوية إجبارية، بينما محمد فى الصف الثالث الثانوى الصناعى ويحتاج إلى دروس فى بعض المواد، «دى سندوتشات الفطار بتاعة العيال بعشرة جنيهات على الأقل، فما بالك بباقى طلباتهم». وفى محاولة منه لتخفيف تلك الطلبات خرج ابنه محمد منذ عدة أعوام للعمل ميكانيكى سيارات بجوار دراسته، يكن له سيد مشاعر خاصة لأنه الراجل الوحيد على 3 بنات لكنه يشعر بالإشفاق عليه، دائما ما يردد «محمد ربنا يعينه ويتولاه، كل واحد بيبقى عارف مستقبل ابنه كويس، الحكومة والحزب من أصغر واحد لأكبر واحد ضامنين مستقبل ولادهم، عارفين كل واحد هياخد ايه، لكن أنا مملكش يومى عشان أضمن لمحمد بكره». محمد يكره القراءة مثل والده، ويرى «سيد» أن ثمن الكتاب يمكن أن يدخره لتوفير بنطلون جينز لأبنه أو قميص جديد لابنته «احنا ثقافتنا واخدينها من الشارع لا كتب ولا قراية، ده كفاية كتب المدرسة، هنروح نشترى كتب بإيدينا، وبعدين لو العيال عايزين يتسلوا يتفرجوا ع التليفزيون، ده حتى السينما مبقاش ينفع نشوفها الواد محمد آخر مرة راح سينما العيد قبل اللى فات، وأنا آخر فيلم دخلته كان «حتى لا يطير الدخان» لعادل إمام فى سينما مترو وكانت التذكرة بتلاته جنيه، دلوقت لو فكرت أدخل أنا ومراتى وولادى سينما مش هيفضل لنا حاجة ناكل منها، عشان كده مقدمناش غير التليفزيون، أما أنا فبدفن غلبى فى الطاولة، لو يوم مفيش شغل أرجع أقعد على القهوة وألعب لحد ما أروح». «سيد» لا يشاهد مؤتمر الحزب الوطنى ولا يهتم بمعرفة أخباره أو ما وصل إليه، وتساءل عندما أخبرناه عن شعار «من أجلك أنت» قائلا «أنا!! ده أنا مشغول طول اليوم، مش لما واحد يجى يزور حد يعرف الأول هو فاضى ولا لأ، الناس دى بتتكلم عنى وأنا بشتغل 16 ساعة فى اليوم، وبعدين تفتكر إنى لو فضيت ساعتين هقعد اتفرج على كلام الناس بتوع الوطنى، يعنى هيقولوا ايه جديد وهيعود على الكلام بإيه، ما احنا لو شايفين نتايج من الكلام ده كان حالنا بقى غير كده، أنا برجع البيت الساعة 11 بالليل، آكل وأقعد مع العيال واستنى مسلسل «ريا وسكينة» ساعات بيجى الساعة 1 وساعات الساعة 2، أتفرج عليه وأدخل أنام، أهو حاجة تسلى الواحد». يخرج «سيد» سيجارة من علبة يدخرها فارغة لشراء السجائر الفرط، لم ينبهر بقرار رفع معاش الضمان 25% وقال: «واحد مرتبه وهو مقرب على الخمسين 404 جنيه، يعنى لما يكمل ستين هيبقى كام، وبعدين يعنى هى الحاجة بتغلى أد ايه لما احنا بنزيد»، ينفخ دخان سيجارته ويتمتم «ربنا ما يحكم على محمد بالعادة دى». يسكت قليلا ويتذكر أنه لم يتناول طعام الغذاء، يخرج بعض الجنيهات من جيبه ويحصر اختياراته بين كيس بطاطس مقلية ورغيف عيش، أو كيسين للبطاطس المقلية لأنه يرى صعوبة فى إيجاد خبز فى البلد الساعة الرابعة عصرا، يعدل خطته قاصدا بياع الفطير على الكورنيش، يقف متأملا النيل، يملأ صدره بالهواء، يكررها مرتين، ثم يسأل نفسه «هو الهوا بقى طعمه وحش ولا انا اللى بقيت بتقل فى الدخان» ينظر إلى السحاب الذى اكتسى بلون رمادى فوق رأسه، ويدعو «ربنا يغير الحال». ينظر إلى ساعته فيلمح قميصه وقد اتسخ قليلا، يتذكر أنه لا يمتلك منذ 4 سنوات سوى 3 أطقم بخلاف طقم النقاشة الذى يضعه فى حقيبته، يخرج محمولا قديما من حقيبته اشتراه من شارع عبدالعزيز ب40 جنيها، ينظر إليه طويلا فلا يجد أى أرقام اتصلت به، يرى فى «الموبايل» اختراعا يبعث الأمل والقلق بداخله، فكل رنة موبايل غريبة قد تكون لعميل يطلبه فى مهمة تجعله يحصل على المزيد من المال، أما الأرقام الغريبة من طرف عائلته فهى بالطبع تحمل مشكلة أو مصيبة يقع فيها أحد أبنائه، يرى فى سكونه بقاء للحال على ما هو عليه، ينتظر أن يمر عليه صاحب مخزن فى السادسة ليتفق معه على نقل البضائع بصفة مؤقته، ينظر إلى ساعته، مازال أمامه المزيد من الوقت حتى يدخن سيجارة أخرى، «أكيد الهوا هو اللى طعمه اتغير»، يسحب نفسا من سيجارته ويخرج زفيرا حارا ويقول «طب ما دامت كل حاجه بتتغير كده.. يارب الحال اللى احنا فيه يتغير».