منذ أكثر من عقدين من الزمان، والعديد من النخبة والمثقفين المحترمين من أبناء هذا الشعب يسألون بأكثر من طريقة، مباشرة أو غير مباشرة، سؤالاً مهماً وعسيراً هو: «ماذا حدث للمصريين؟»، والإجابة عن هذا السؤال تناولها العديد منهم، وغيرهم كثير من المهمومين بمستقبل هذا البلد وأجياله القادمة، بصور وتصورات مختلفة، ولكنى أزعم أن هناك عاملاً أساسياً وراء ما حدث من تغيير فى الشخصية المصرية، هو انتشار الجهل والانحدار الثقافى الرهيب خاصة بين الأجيال الجديدة التى نشأت وترعرعت فى ظل نظام فاشى لم يكن فيه الاهتمام بمستوى التعليم والثقافة التى يتلقاها غالبية الشعب من أولويات حكامه وحزبه المسيطر المتحكم.. وهو ما أدى إلى أن يصبح التطرف سواء فى الأمور الدنيوية أو الدينية هو إحدى سمات الشخصية المصرية فى هذه الحقبة من تاريخ هذا الشعب، والتى أظن أن التاريخ سوف يذكرها كواحدة من أسوأ مراحل التاريخ المصرى الحديث، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق. التطرف فى الأمور الدنيوية تلحظه فى أسلوب معيشة الشعب المصرى واهتماماته وتفاعله مع الأحداث.. ولعل ما واكب مباراة كرة القدم الأخيرة بين مصر والجزائر وردود الأفعال حولها، هو المثال الحى القريب لتطرف المشاعر فى لحظات الانتصار والانكسار.. كذلك فإننى أعتقد أن عزوف غالبية الشعب المصرى عن المشاركة السياسية وعدم الاهتمام بتغيير النظام السياسى القائم والدستور الذى يحكم حياتهم، إنما هو تطرف فى الرغبة فى استمرار القدرة على مجرد المعيشة حتى لو كانت فى أدنى صورها، وحتى صار طلب أكل العيش هو الشعار والهدف وغاية الأمل!! حتى الحياة الاجتماعية للشعب المصرى شهدت مظاهر بين الفئة القادرة فيه، تعد بمقاييس العالم المتحضر نوعاً من التطرف والمبالغة فى الاستمتاع الشخصى، تبدو مظاهره فى الرغبة المتنامية لسكنى القصور والفيلات الكبيرة بأكثر بكثير مما يحتاجه الإنسان العاقل والمتزن لحياته مع تأكيد البعد عن الاختلاط بالناس العاديين سواء فى مناطق سكنهم أو تعليمهم أو ترفيههم، ولعل من عاش فى البلاد الأوروبية أو الشرق آسيوية المتحضرة لم يشاهد مثل هذا التطرف فى البذخ الشخصى بين أبناء الطبقات العليا والمتميزة فى هذه المجتمعات، فسكنى القصور والفيلات الكبيرة بها يكاد يكون منعدماً إلا فى حالات خاصة جداً. أما مظاهر التطرف فى الأمور الدينية الذى أنتجته أيضاً حالة انتشار الجهالة وضحالة الثقافة فى هذا الزمان فحدّث عنها ولا حرج.. والغريب أنها فى الشعب المصرى كانت كلها منصبة على المظهر لا المخبر، وعلى الجسد لا القلب.. ونظرة واحدة على الشارع المصرى ومظهر الناس فيه وتعاملاتهم تؤكد هذا التغيير الكبير فى المجتمع المصرى ناحية التطرف، وبُعداً عن الوسطية والاعتدال.. ولمحدودية المساحة سوف أذكر تجربة قريبة، فقد عدت لتوى من رحلة عمل بموسم الحج هذا العام، ورأيت كيف يفهم المصريون هذا الركن من أركان الإسلام الذى فرضه الله على من استطاع إليه سبيلا، وكيف تطرفت عقول الغالبية العظمى منهم فى فهم وترتيب وكيفية أداء هذه الشعيرة المقدسة.. ورأيت وسمعت مناقشات وإفتاءات وادعاءات بالمعرفة، تدخل كلها فى مجال «الجدال» الذى حرمه الله فى هذه الأيام المباركة!! إن ما ذكر فى القرآن عن شعيرة الحج بضعة سطور قليلة واضحة وضوح الشمس.. والرسول عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا مرة واحدة، وبالتالى فإنه لم يفعل شيئاً مرة وفعل غيره مرة أخرى.. فحجته الواحدة تمت فى ظروف ما بعد الفتح الإسلامى لمكة، وما فعله فيها متناسب مع الظروف المكانية وعدد من قاموا بالحج معه، وكانت حجته هذه بمثابة الوداع بعد اكتمال الدين وإتمام الله نعمته على البشرية بارتضائه الإسلام لهم ديناً.. وتجنب الرسول الخوض فى تفاصيل صغيرة حول مشاعر الحج، سأله الناس عنها، وأكد أن الوقوف بعرفة والتوجه إلى الله بالحمد والثناء والدعاء بقلوب خاشعة ونفوس متطهرة، هو الركن الأساسى لهذه الشعيرة المقدسة.. ولكن مع ازدياد الجهل وتردى المستوى الثقافى، يزداد تطرف المصريين فى فهم معانى السنة النبوية الشريفة، ولعلنا جميعاً نلحظ مظهراً جديداً فى الغالبية العظمى ممن يؤدون هذه الفريضة، لم يكن سائداً منذ سنوات قليلة، وهو حلق الرأس بالموسى وكأن ذلك قد صار أساساً من أسس هذه الشعيرة، فى حين أن القرآن الكريم ذكر الحلق أو التقصير. الغريب أنه مع كل هذا التطرف فى المظهر وصغائر الأمور، فإن الغالبية من هؤلاء الحجاج اتفقوا على شىء واحد وهو ألا يحملوا هدايا من الأراضى المقدسة إلا للمقربين منهم، أما عداهم فسوف يشترون لهم سجاجيد الصلاة والطواقى والسبح من أحد المحال الكبرى التى يمتلكها تاجر إسلامى شهير، وضع هو أيضاً على محاله لافتات بأنه توجد لديه متطلبات هدايا الحجاج!! قلت فى نفسى: يا سبحان الله.. أبعد كل هذا الجدال والتزاحم لأداء الصلوات وكل مظاهر التدين الشكلى بما فيها حلق الرؤوس بالموسى، تغشون أصحابكم وذويكم بإهدائهم هدايا على أنها من جوار الكعبة أو مدينة الرسول الكريم وهى من «التوحيد والنور»؟!