حتى هذه اللحظة يشار إلى الموقف الرسمى المصرى من مسألة جدار غزة باعتباره فى المنتصف، لا ينفى ولا يؤكد. هذا صحيح أكاديمياً من الناحيتين القانونية والصحفية. فمن الناحية القانونية لم يصدر بعد عن مصدر مسؤول (له اسم وله وجه) تصريح واضح جامع مانع، ومن الناحية الصحفية يستحق زملاؤنا الذين حرصوا على وضع خط تحت هذه الحقيقة تحية على التزامهم المهنى، خاصةً فى موضوع مشحون بالعواطف ومثير للشجون. غير أن ثمة نواحى أخرى لا يمكن إغفالها، لا قانونياً ولا صحفياً ولا أخلاقياً، فقد ظهر الخبر لأول مرة فى صحيفة إسرائيلية تحمل من المصداقية للأسف أكثر مما يحمله بعض صحفنا التى تسمى صحفاً قومية. أعقب هذا تقرير مصور لمراسل الخدمة العالمية لتليفزيون «بى. بى. سى»، صاحب المصداقية الأعلى فى بلادنا تاريخياً. ورغم خطورة الادعاء، لزم المسؤولون المصريون الصمت، فى دليل واضح آخر على أن حكوماتنا، منذ تولى الرئيس مبارك، هى أساساً حكومات رد فعل لا حكومات فعل، بل إن رد الفعل هذا لا يأتى عادةً إلا وقد بلغ السيل الزبى أو مجرد تحصيل حاصل. وربما لأن من المستحيل إخفاء ما يحدث الآن على الحدود مع فلسطين عن العين المجردة، ولا تجاهل أصدائه محلياً وإقليمياً وعالمياً، فقد بدأنا نضع «مصادر أمنية» و«مصادر رسمية» و«مصادر مطلعة» بلا أسماء ولا وجوه أمام المدفع، برسالة مفادها أساساً أن من حق مصر أن تحرص على سيادتها وعلى أمنها القومى، وأنها لا تستهدف سكان غزة. وهذه فى حد ذاتها طريقة فى الإعلام لا تساعد صاحبها على الظهور فى صورة الواثق من موقفه. وربما لذلك أضيف أخيراً وجه إلى الرسالة ذاتها عندما كررها وزير الخارجية والمتحدث باسم الرئيس فى مناسبتين مختلفتين دون الدخول فى تفاصيل، وكان من باب أولى أن يحدث هذا بصورة واضحة لا لبس فيها قبل أن يتسرب الخبر عبر صحيفة إسرائيلية، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع منطق الرسالة الرسمية نفسها. إذن ليس صحيحاً أن مصر الرسمية لم تحدد موقفها رسمياً بصورة لا تقبل الشك، بل إن «الجميل» فيما حدث - إن كان فيما حدث جميل -أن الطريقة التى عولج بها الأمر سياسياً وإعلامياً لا تعكس اعترافاً عملياً بصحة التقارير وحسب، بل تعكس أيضاً اعترافاً بمدى الحرج الذى تشعر به حكومة بات واضحاً أنها مغلوبة على أمرها. دعك من حجة سيادة مصر وأمنها القومى، فالذين يرفعونها - ولهم منا كل التقدير والاحترام - يعلمون أكثر منى ومنك أن أمن مصر القومى لم يبدأ فى يوم من الأيام من رفح، وأن من يتجاهل معطيات الجغرافيا السياسية تغلبه فى النهاية حتمياتها. قبل ساعات من ذهاب إدارة بوش الصغير إلى حيث ذهبت هرول الإسرائيليون إلى قضمة أخيرة من لحم غزة الحى ومن لحمنا معها من خلال اتفاق بين ليفنى ورايس، يتضمن مراقبة أرضية بحرية جوية للحدود. تحرص «المصادر الأمنية» اليوم على التأكيد على رفض مصر القاطع هذا الاتفاق. إذا كان هذا صحيحاً، وإذا كان ما يحدث الآن على حدودنا مع فلسطين درءًا لما كان يمكن أن يكون أسوأ من وجهة نظر الأمن القومى (أو حتى أمن النظام).. فلماذا لم يفكر مسؤولونا فى القذف بتلك الكرة الملتهبة إلى صدورنا نحن بطريقة أو بأخرى؟ لقد أنستنا حكومتنا ونسيت أن الشعوب تصلح أحياناً لما لا تصلح له الجيوش أو أنظمة الأمن، والآن بدلاً من أن يتجه حنقنا إلى واشنطن وتل أبيب يتجه - يا للحزن - إلى القاهرة.