لم أكن أتصور وأنا أكتب فى هذه المساحة للرأى منذ عددين سابقين، عن ذكريات طفولتى فى وصف رومانسى حميم لطعم ورائحة الحياة الاجتماعية فى مصر أثناء فترة حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. أنى قد صوّبت حجراً موجعاً فى جحر الثعابين الملتفة حول سموم أحقادها (!!) واضح من الرسائل التى وصلتنى أن شخص عبدالناصر وسياسته التى انتهجها خلال الثمانية عشر عاماً من سنوات حكمه، مازالت تشكل صراعاً وخلافاً فكرياً وعاطفياً عميقاً بين أعداد كبيرة من أبناء وبنات هذا الوطن. هذا التطرف فى الآراء والمشاعر بين مؤيد ومعارض، إنما يعكس فراغاً كبيراً فى حيز التأريخ الموثق بالوقائع والدلائل والبراهين لما لهذه الفترة التاريخية من انتصارات وما عليها من انكسارات. هذا الفراغ الناجم عن عدم تجميع الوثائق والشهادات التاريخية عن هذه الفترة الانتقالية المحورية المهمة من التاريخ المعاصر لهذه الأمة (1952 – 1970) يتركها نهباً لحملات التضليل ونشر الأكاذيب وفق المصالح الخاصة لقادة تلك الحملات. الضحية فى تلك الحالة هى - للأسف الشديد - الأجيال الجديدة من الشباب الذين قدمت لهم وسائل الإعلام الموجهة، والكتب السياسية الصفراء، التى كتبتها مجموعة من الأجراء ما يجعلهم يكفرون بمبادئ تلك الثورة وقائدها، ويحرمهم من مشاعر العزة والكرامة والفخر بهويتهم كمصريين استطاعوا أن يتحدوا مؤامرات القوى العظمى فى الغرب ويحققوا من صور وأشكال البناء الداخلى للبيت المصرى ما يقوى ثقتهم فى أنفسهم واعتدادهم بهويتهم القومية. فقد الشباب المصرى منذ وفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر عام 1970 وتولى أنور السادات مقاليد الحكم، الحبل السرى من الانتماء الذى كان يربطهم بهذه المرحلة المهمة التى ارتبطوا بها عضوياً وروحياً، لسبب بسيط وهو أن مبادئ الثورة كانت نابعة ومعبرة عن روح وآمال أبناء هذه الأمة، ولم تكن مفروضة عليهم من رجال أصحاب مصالح فردية. انقطعت وسائل الإعلام منذ ذلك التاريخ عن وصف عبدالناصر، كأول رئيس مصرى المولد والانتماء والهوية، يحكم البلاد منذ 2500 سنة. حجبوا عن شاشات التليفزيون كل الإنجازات التى تمت لتحقيق مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية. خرج السادات للإعلام ليعلن أمام العالم أن مصر فرعونية الأصل والهوية، وأنكر على المصريين انتماءهم الجغرافى والثقافى والدينى للمنطقة العربية. مات عبدالناصر منذ أربعين سنة ومازالت جبال التراب تنهال على ذكراه، تحاول طمس معالم شخصيته التى اتسمت بقوة الإرادة والحزم والزهد الشخصى والتعاطف الأصيل مع الطبقة الضعيفة المعدمة. أربعون عاماً ومازالت أكوام الحجارة تنهال على إنجازات الثورة ومشاريعها العملاقة، فهل هى خسارة ناصر والثورة، أم هى خسارة مصر الأمة فى حاضرها ومستقبلها؟!! [email protected]