استيقظ الأتراك صباح يوم 17/8/1999، على زلزال مدمر قوته 7.2 ريختر، أسفر عن مقتل ما يقرب من 17 ألف شخص، وتهدم آلاف المبانى، وتشرد آلاف الأسر، وجرح عدد هائل من المصابين، كانوا يتلقون العلاج فى الحدائق والميادين، يقول الأتراك إن وقتها لم تكن الصدمة فى الزلزال باعتباره كارثة طبيعية، وإنما فى مستوى أداء الدولة المترهل إلى حد الفشل والعجز الكامل. يعتبر الأتراك هذا الزلزال علامة تاريخية فارقة فى حياتهم، تفصل بين وضع للدولة وأدائها وخدماتها قبله ووضعها بعده. 10 سنوات فقط احتاجها الأتراك ليغيروا صورة بلادهم جذرياً، بدأت بإعادة إعمار وبناء فى كل مكان، وإعادة نفض البنية التحتية المترهلة، وإعادة الاعتبار للقانون، ولحقوق المواطن لدى حكومته، ومن ثم الوثوب إلى تنمية متكاملة سارت فى عدة مسارات متوازية، وبإنجاز متكامل فى جميع تلك المسارات، من ملف الخدمات والبنية التحتية وتطويرها وتحديثها بأفضل النظم التكنولوجية الغربية، إلى ثورة فى التصنيع وتنمية الموارد، والاعتماد بشكل أساسى على منتجات صنعت فى تركيا، إلى ثورة فى القيم تعتمد على منح المواطن الثقة فى أن كل هذا الإنجاز يتم لصالحه، وبالتالى ضمان شراكته بسلوك عال ومنظم فى احترام القوانين، وترشيد الطاقة، والعمل الجاد، ثم الأهم من ذلك تحول ديمقراطى جذرى أعاد القرار للشعب فى اختيار حكومته ورئاسة بلديته، ومحاسبة الجميع بدءاً من رئيس الوزراء، وحتى رئيس الحى، بالعزل فى أقرب تصويت انتخابى إذا ما قصر أو تخاذل، بما يجعل بقاء المسؤول فى مكانه مرهوناً بصندوق الاقتراع فقط لا غير، وكان سبباً مباشراً فى كفاءة الأداء الحكومى الذى حقق كل ذلك. قبل عشر سنوات كانوا مثلنا وربما أقل، لكن صورتهم تغيرت تماماً خلال هذه الفترة الصغيرة جداً بمعاييرنا الخاصة جداً، وتحولت تركيا إلى نموذج اقتصادى وسياسى وتنموى وتعليمى مؤهل لفرض كلمته فى المنطقة دون مخاوف أو حسابات. بنى الأتراك نموذجاً اقتصادياً صاعداً، ونموذجاً ديمقراطياً واعداً، ونموذجاً سياسياً قائماً على الانفتاح على جميع القوى وفق محددات المصالح التركية فقط، فصارت دولة تتمتع بعلاقات جيدة مع أمريكا، وفى الوقت نفسه انفتاح كبير على إيران، وعلاقات هادئة واستراتيجية مع إسرائيل، وعلاقات تتوثق مع سورية، ورغبة جادة فى دخول الاتحاد الأوروبى، وانفتاح ليس بديلاً على العرب وآسيا الصغرى، ديمقراطية بالمعايير الغربية، وتدين بالمعايير الشرقية، ونموذج إسلامى متسامح ومعتدل دون تفريط، ونظام تعليمى يضخ فى شرايين المجتمع كوادر مؤهلة، ونسيج قيمى يجمع ولا يفتت، وقوة عسكرية يدعمها إنجاز اقتصادى، واستقلال سياسى، وشعب حاضر وشريك فى كل ذلك. إذا لم يكن الأتراك قد قدموا بالفعل، فعلى الأقل هم قادمون. [email protected]