«يكفيكو شره».. هكذا رد علينا سائق التاكسى فى إشارة إلى المعهد القومى للأورام، وعلى بوابة المعهد قطعنا تذكرة زيارة بخمسة جنيهات، على الرغم من أن القيمة المدونة على التذكرة هى 3 جنيهات فقط لا غير، قبل يومين من صدور قرار الإخلاء كنا هناك.. أطفال يحلمون بجرعات العلاج الكيماوى، ونساء وحيدات فى معركة السرطان أتين من «آخر الدنيا» بحثاً عن الأمل.. قبل صدور قرار الإغلاق كنا هناك، كان الألم واضحا على الجميع، انتظار طويل أصبح الموت معه جزءاً من رحمة لا تتحقق للغلابة، انتظار قطعته أنباء عن كون المبنى المكون من 13 طابقا آيلاً للسقوط على رؤوس المرضى. داخل أروقة المبنى، وتحديداً فى عيادة الأطفال كانت الرسومات تملأ الجدران، فراشات خضراء وزرقاء، وصور لحدائق وزهور تعطى أملاً لأطفال تسرب إليهم المرض الخبيث. فى المبنى الجنوبى الذى يخصه قرار الإغلاق غرفة واحدة لعلاج الأطفال، وفى الردهة تجلس أسر بكاملها فى انتظار صوت ينادى على اسم المريض من سماعة مثبتة بالمكان. فور النداء على المريض تأتى الممرضة لتأخذ الطفل إلى الغرفة، حيث يتلقى حقنة العلاج الكيماوى «على الواقف»، فالغرفة أصغر من أن تتسع للمرضى، وشبح الإخلاء يملأ المكان بالفوضى. فى الغرفة 5 أسرة مخصصة للمرضى الذين لا يجدون مكاناً فى العنابر، وحين يفرغ سرير يرقد طفلان مصابان بالمرض عليه. فى الممر كانت تجلس سيدة شابة ترتدى ملابس قاتمة، كانت تقاوم ألم طفلها الوحيد المصاب بالسرطان منذ عام تقريباً بابتسامة ترسمها بهدوء وهى تنظر إليه ليطمئن. تقول السيدة التى رفضت نشر اسمها: «أنا من المنيا وبجيب ابنى كل يومين للمعهد بصرف فى اليوم 50 جنيه مواصلات بس.. والفلوس مش مشكلة وكله يهون بس الواد يتعالج» لا تخفى السيدة قلقها من قرار إخلاء المبنى ووقف العلاج فيه «رضينا بالهم والهم مش راضى بينا.. يعنى بعد ده كله يقولوا إنهم هايقفلوا المعهد ومحدش قالنا هانودى العيال فين ولا نعمل إيه، ربنا يستر». لم تختلف حالة السيدة المنياوية عن حالة غيرها كثيراً، ففى ممرات المكان وعلى السلالم تجلس أمهات من مختلف محافظات الجمهورية.. جميعهن يسألن «نروح لمين» بينما تتوه الإجابة بين الشائعات وهمسات المرضى وأقاربهم الذين كانوا يسكنون دار الضيافة بجوار المعهد، وذلك قبل إغلاق الدار وقبل صدور قرار الإغلاق بيومين وطرد غالبية المقيمين فيها. طبيبة شابة رفضت هى الأخرى ذكر اسمها حاولت أن توضح الحالة «مافيش مكان يكفى الجميع.. والزحمة فى كل مكان فى المعهد مش هنا بس وحتى عدد الممرضات والأطباء مش مكفى.. إحنا بيجيلنا من كل حتة فى مصر ومش عارفين نعمل إيه فعلاً». على باب المصعد كان صوتها يخرج باكيا «يااااارب».. تنادى رافعة بصرها لسقف المبنى الآيل للسقوط وتعيد النداء، هذه المرة من أعماق قلبها، كأنها تصرخ ليخترق صوتها جدران الأسمنت ويصل إلى السماء السابعة «مش عارفة أعمل إيه قفلوا باقى الأدوار وقالوا مش هانستقبل عيانين.. الغلابة ليهم مين غيرك.. يا تشفيهم يا ترحمهم.. يارب». كان الألم يعتصرها وبينما تعلقت روحها بالسماء فإن عينيها كانتا تراقبان المصعد والسلالم فى انتظار أى أمل. لم تختلف الحالة من قسم الأطفال لقسم الباطنة.. هناك غرفتان فقط للكشف على المئات من المصابات بسرطان الثدى.. وبينما يتكدس المرضى فى الردهات تنادى الممرضة على اسم جديد فتتحرك شابة أو سيدة مسنة أو أم تجر أطفالها نحو باب غرفة الكشف.. مريضة أتت من «آخر الدنيا» وأخرى تتابع الحالة بعد عملية بتر ثدى، وثالثة تخشى من سرطان الرحم.. الجميع يأتى بحثا عن أمل، لكن بعد 48 ساعة سوف يبدأ قرار رئيس جامعة القاهرة بإخلاء المبنى وإغلاق القسم ووقف صرف العلاج وإجراء العمليات الجراحية. «خاص» كانت الكلمة المكتوبة على الأبواب الزجاجية لمداخل الغرف فى الدورين الرابع والخامس، نظرة واحدة تكشف الفارق المذهل بين الغرف «الخاصة» وغرف علاج الفقراء فى الأدوار السفلى التى تملؤها رائحة الدواء خاصة فى قسم «علاج الألم».. كانت الغرفة الخاصة نظيفة وهادئة بينما تنتشر «السرنجات» ومخلفات تنظيف الجروح من قطن وشاش فى «غرف الغلابة». وفى الطابقين السادس والسابع «وحدة زرع النخاع»، حيث توجد أجهزة خاصة وغرف عزل لزرع النخاع.. فى الطابقين وحدات متطورة تقدر قيمتها بالملايين.. ورغم ارتفاع التكلفة فإن قرار الإخلاء لم يراع أن هذه الوحدات المتطورة افتتحت قبل عام ونصف العام فقط ويستحيل نقلها من مكانها. فى الدورين السادس والسابع بدأ الإخلاء مبكراً.. فقبل 10 أيام من صدور القرار رسمياً منع المعهد استقبال حالات جديدة لوحدات الدورين وتم إخلاء جميع المرضى من المكان «على سبيل الاحتياط» دون أن يوضح المعهد سبباً لذلك أو يلتزم بجدول لعلاج المرضى بعد أن فقدوا الوحدات والأمل معاً.