فى هذا المقال الأخير نحدد استراتيجية الرئيس أوباما فى بناء مفهوم جديد مختلف عن مفهوم الفوضى الخلاقة التعامل مع أزمات المنطقة وبناء منهجية لحل وتسوية الصراعات. يسمى أوباما الاستراتيجية الجديدة استراتيجية بناء طبقة وسطى جديدة، وهى مختلفة بعض الشىء عن استراتيجية الفوضى الخلاقة التى اعتمدت على مفهوم الثورة على النظام القائم. أوباما يرى الوجة الإيجابى للتغيير، بينما كوندوليزا اعتمدت الوجه السلبى كأساس للتغيير. الأساس المنهجى والمفهومى لتصور مفهوم أوباما الجديد هو اعتماد الطبقة الوسطى كآلية للتغيير، وليس كآلية للثورة البرجوازية، تتلخص فى المعالم التالية، دعنا لنأخذ الحالة الإيرانية والحالة التركية كنموذجين. أولا: تمتد جذور حركة الإصلاح فى إيران إلى صعود الطبقة الوسطى الجديدة التى نشأت منذ أواخر عقد الثمانينيات، وفى تلك الفترة نشأت هذه الطبقة من خلال خصخصة الاقتصاد ومن خلال الإصلاحات الاقتصادية بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية. نمو هذه الطبقة الوسطى الذى رافقه أيضًا رخاء متزايد، ارتبط بمطالبة الإيرانيين بقدر أكبر من الحرِّيات السياسية، وبتقليل القيود المفروضة عليهم من قبل الحكومة وكذلك بالتحرّر الاجتماعى، بالإضافة إلى مطالبتهم بتعزيز علاقات إيران الاقتصادية مع الاقتصاد العالمى. أدَّى تحرير الاقتصاد فى إيران، من عدة جوانب، إلى الإسراع فى المطالبة بإصلاحات سياسية، والتحديث الاقتصادى أدَّى إلى تقوية عناصر المجتمع المدنى التى كانت تعكس قيم الطبقة الوسطى الناشئة ونمط حياتها. هذه الطبقة أتاحت المجال لحركة الإصلاح؛ بيد أنَّها لاتزال غير كبيرة بما فيه الكفاية، من أجل ضمان نجاح حركة الإصلاح فى إيران نجاحًا تامًا. كثيرًا ما كانت أنظمة الحكم فى منطقة الشرق الأوسط تقوم فى الماضى برعاية الطبقة الوسطى وبفرض هيمنتها عليها، وذلك على سبيل المثال من خلال حملات الدعاية السياسية فى أنظمة التعليم أو من خلال فرض تغيير ثقافى. ثانيا: الطبقة الوسطى القديمة لم تكن برجوازية بمعنى الكلمة، ولهذا السبب فهى أيضًا لم تكن تلعب دور البرجوازية التاريخى مثلما كان الحال فى الغرب. الطبقة الوسطى التى تمت رعايتها من قبل الدولة تعتبر أيضًا تابعة للدولة، وكذلك لا يمكنها، لهذا السبب، أن تطوِّر نفسها لتتحوّل إلى قوة تحرِّك عملية التحديث السياسى. والطبقة الوسطى البرجوازية، التى عملت فى الماضى على تغيير مجتمعات الغرب وتعمل فى يومنا هذا على تغيير المجتمعات فى الدول الصناعية الجديدة، لا تعتبر تابعة للدولة، بل هى تابعة للأسواق. وكذلك ترتبط مصالحها بتطوّر الاقتصاد العالمى، وهى تدافع عن تصوّرات ثقافية وسياسية تخدم مصالحها الاقتصادية. والبرجوازية المستقلة، أى الطبقة الوسطى البرجوازية التى ترتبط بالاقتصاد العالمى، كانت ولاتزال القوة الدافعة من أجل تطوّر الديمقراطية واقتصاد السوق، وكذلك من أجل الاستقرار ومن أجل انهيار الأيديولوجيات المتطرِّفة. ونحن نستطيع التعرّف على هذا التطوّر من خلال إلقاء نظرة على الماضى وكذلك من خلال الكثير من الأمثلة فى الوقت الحاضر.إنَّ الطبقة الوسطى القديمة فى منطقة الشرق الأوسط لم تكن رأسمالية، بل لقد كانت ساكنة لا تتحرّك. فى حين أنَّ الطبقة الوسطى الجديدة هناك تعتبر دينامية ورأسمالية وتهتم بالتجارة الحرة، ثالثا: الاندماج فى السوق العالمية يعتمد قبل كلِّ شىء على الإصلاحات الاقتصادية الداخلية وعلى المزيد من التبادل التجارى فى البلدان المعنية. لذا الجمع بين الإصلاحات الاقتصادية وزيادة التبادل التجارى يجبر كلَّ الاقتصادات الوطنية المعنية على التغيير، ويربط الرخاء المتنامى وكذلك أيضًا الطبقة الاجتماعية التى تعتبر الرابح الأكبر من ذلك بالاقتصاد العالمى. ومن ثم سوف يتطلَّب هذا التحوّل الاقتصادى المزيد من الإصلاحات السياسية التى سوف تدفع البلدان المعنية إلى التوفيق بين مصالحها وبين مصالح بقية الدول فى العالم، وإلى ضمان المزيد من الشفافية السياسية التى تقوم على أساس سيادة القانون والقيم العالمية. رابعا: التحوّل الاقتصادى يتيح الفرصة لإيجاد حلّ طويل الأمد للمشكلات الموجودة بين الغرب وأجزاء كبيرة من العالم الإسلامى. على المدى الطويل عندما يتم التغلّب على المناخ الراهن والمكوّن من المواجهة وعدم الثقة بين الغرب والعالم الإسلامى، يجب علينا بناء علاقات مع العالم الإسلامى على غرار العلاقات بين الغرب وشرق آسيا أو أمريكا اللاتينية. وهذا يحتاج إلى تعزيز التبادل الاقتصادى وإلى المشاركة فى القيم والمصالح الاقتصادية، بالإضافة إلى الإسهام فى السوق العالمية. فى إطار هذا الفهم يتم التخطيط للسلام والتجارة فى الشرق الأوسط، الأمر الذى يوحى بالعودة الجزئية إلى مفهوم كولن بول للتغيير الاجتماعى فى الشرق الأوسط.