أثار مسلسل الجماعة اهتمام الكثيرين خاصة هؤلاء الذين حاولوا أن يهربوا من حصار المسلسلات البليدة، والبرامج المسيئة لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية التى انهمرت على الناس طوال الشهر الكريم. ويمكن اعتبار مسلسل الجماعة واحدة من الفرص المهدرة لتقديم عمل فنى محترم يعيش، ولا تنتهى قيمته إذا تغير الوضع السياسى ولو حتى بتغير الأشخاص، خاصة أنه تحدث عن جوانب صحيحة فى طريقة تفكير الجماعة، وأشار إلى أزماتها بصورة تقترب من الواقع، ولكنه أهدر كل ذلك حين قرأ السياق السياسى المحيط بها بصورة لا علاقة لها بالواقع. ويمكن قراءة مسلسل الجماعة من زاويتين: الأولى تتعلق بتعامله مع السياق المحيط بجماعة الإخوان المسلمين، وهنا كان الجزء الأسوأ فى المسلسل لأنه اختزله تقريبا فى الصورة الملائكية لأجهزة الأمن، والثانى يخص طريقة اقترابه من تنظيم الجماعة وفكرها، وهو الجزء الذى بذل فيه مجهود، وحمل بعض الجوانب الصحيحة، وجانبه الصواب فى جوانب أخرى. ورغم أن المسلسل قد انتقد حالة الفراغ والجمود السياسى والفروقات الطبقية فى المجتمع المصرى، وتحدث عن صعوبة أوضاع طلاب المدن الجامعية القادمين من الأقاليم، وعدم قيام الدولة بواجباتها تجاههم وتجاه غيرهم، إلا أنه انحاز بشكل كامل وأعمى لجهاز أمن الدولة ووزارة الداخلية بصورة تشعرك أن التحقيقات التى تجرى مع عناصر الإخوان تجريها أجهزة الأمن فى سويسرا أو السويد وليس حتى فرنسا أو أمريكا، وأنه لو قررت وزارة الداخلية أن تقوم بعمل مسلسل للإشادة برجالها لما قدمتهم بنفس الصورة التى قدمها مسلسل الجماعة، الذى قضى على مصداقيته، رغم أنه كان محاولة جادة لفهم جماعة الإخوان من الداخل، ومن أسوئها فى فهم البيئة المحيطة بها من الخارج. وقد تضمنت حوارات المسلسل خلافا بين الضباط على نوع الخدمة المقدمة لمعتقلى الإخوان، وهل هى خمس نجوم أم أربعة، فالضابط الكبير اعتبرها أربعة أما الشاب فقد اعتبرها خمس. وحين يجرى اعتقال أحد أذكياء الجماعة و«وزير ماليتها» الأستاذ بهجب (عبدالعزيز مخيون فى المسلسل وخيرت الشاطر فى الواقع) فى الفجر، يقول له الضباط «آسفين على إزعاج حضرتك»، ويصبح تقديم الشاى والقهوة والمعاملة الرقيقة جدا الخلفية المصاحبة لكل التحقيقات التى تجرى معهم، وكأننا فعلا فى أحد الفنادق، ولسنا فى سجون وأقبية جرى فى كثير منها اعتداءات مشينة على العديد من المعتقلين السياسيين ومنهم الإخوان المسلمين. أما الإخوان «الأشرار» فمهمتهم الوحيدة كانت هى الدعاء بصوت عال على رجال الأمن «الطيبين»، الذين تحملوهم برحابة وسعة صدر. والمدهش أن الأمر امتد إلى الحديث عن حوارات فكرية عميقة بين ضباط أمن الدولة والإخوان، فيقول الضابط الكبير إنه يدافع عن النظام لأن الدولة فيه مدنية رغم ما بها من فساد، فى حين أن الإخوان فاسدون مثل الحكومة ولكنهم يبشرون بنظام فاشى، وهى جمل يمكن أن يقولها كاتب المسلسل وليس لواء فى أمن الدولة فى تحقيق مع عناصر الإخوان. وحين يفرج القضاء المدنى عن كل القضايا التى قدمها الأمن ضد عناصر الجماعة، ويضطر الحكم لتحويلهم لمحاكمات عسكرية، نصبح أمام مشكلة حقيقية فى التحريات وتلفيق التهم يتعرض لها الإخوان وغيرهم من القوى الفاعلة فى المجتمع المصرى. والحقيقة أن فى هذا العهد دون غيره ظهرت نوعية من الناس ضمت تحالفاً نادراً من كل المهن («مثقفين» وفنانين وصحفيين ورجال أعمال)، صنعوا نمطاً من «النفاق اللزج» لم نره من قبل، يتجاوز بكثير النفاق المعتاد والحسابات المصلحية التى ربطت كثيراً من هؤلاء بنظم الحكم القائمة، فشاهدنا فنانين وكتاباً يمثلون السلطة فى عهد عبدالناصر والسادات وجزء فى عهد مبارك محترمين ومهنيين، أما الآن فيدهشك نمط من النفاق غير مطلوب ولا يحتاجه النظام ومع ذلك يصر عليه البعض. والمؤكد أن المسلسل لم يكن مطلوباً منه أن يهاجم أمن الدولة طالما أراد لعمله أن يمر ويعرض فى التليفزيون الحكومى، ولكنه لم يكن مطالباً أيضاً بأن ينافقه بهذه الطريقة الفجة. وإذا كان صحيحا أيضا أنه لم يحدث تعذيب منظم أو ممنهج ضد عناصر الإخوان كما جرى مع جماعات العنف والعمليات الإرهابية فى الثمانينيات والتسعينيات، ولكن بالتأكيد هناك اعتداءات متكررة بعضها باجتهادات فردية حدثت على كثير من المعتقلين السياسيين وغير السياسيين نتيجة غياب المحاسبة، وتغول جهاز أمن الدولة فى كل مجالات الحياة من تعيين المعيدين إلى إقامة الندوات إلى الإشراف على القنوات الفضائية الخاصة إلى ملف الإخوان والاحتقان الطائفى والتوريث والأحزاب وغيرها. ولأن حضور السياسة فكرا وممارسة يساعد النظام القائم (وأى نظام) على مواجهة خصومه وعلى رأسهم الإخوان، فإن غيابها يعنى حضور الأمن لملء الفراغ الذى هجرته السياسة، وتصبح مهمته ليس فقط قمع السياسيين أو مواجهة التنظيمات المتطرفة والخارجة على الشرعية، إنما قمع كل شىء وإعادة ترتيب كل شىء أيضا. فالمطلوب من الجميع أن يظلوا فى الغرف المغلقة حتى الأحزاب الشرعية، وغير مسموح لأحد أن يمارس العمل السياسى «بجد» وأن ينزل الشارع بغرض تداول السلطة مع النظام القائم، وبما أن الأخير تجمد فى مكانه وغير قادر على منافسة أحد فى الشارع، فأصبح مثل التلميذ البليد فى حاجة إلى «برشامة» من أجل البقاء وكان الأمن هو برشامته دون أدنى شك. هذا الفهم البديهى لطبيعة اللحظة الحالية التى غيبت عنها السياسة، وأصبح تلقائيا الأمن والقمع حاملين عبء أى حكم فاشل، نتيجة غياب السياسة ودولة القانون معا. وحين انتقل المسلسل إلى الجوانب السياسية المحيطة بالجماعة، تحدث بصورة صحيحة وسلسة عن ضعف أحزاب المعارضة، واتهم الحزب الحاكم بالفساد وغياب الفاعلية وإن كان أقل جرأة ووضوحا مما جاء فى فيلم طيور الظلام، وجانبه الصواب حين تحدث عن اختراق الإخوان للحزب للوطنى، وهو أمر غير صحيح، لأنه لم يعرف أن «إخوان الحزب الوطنى» هم أبناء الحزب الوطنى فقط، وأن صور التدين المغشوش والشكلى التى غرق فيها المجتمع المصرى هى «فخر» الصناعة المصرية فى الثلاثين عاما الأخيرة، حين سمح الحكم بنمو التيارات السلفية وبيزنس الدعاة الجدد وشيوخ بول الرسول وإرضاع الكبير من رجال المؤسسات الدينية الرسمية، صحيح أن الإخوان استفادوا من كل هؤلاء ولم يرفضوهم، إلا أن «إخوان البنا» ظلوا مختلفين عنهم ولم يصنعوهم. لقد عاش تنظيم الإخوان المسلمين أكثر من 80 عاما، وحصيلة هذا العمر هى الفشل، فلا هم نجحوا فى مجال الدعوة ولا السياسة، ومثلوا عبئاً على عملية التطور الديمقراطى، وأهدروا فى السنوات الست الأخيرة أكثر من فرصة للتطور والإصلاح، ولكنهم لم يفعلوها ولن يفعلوها لأن المشكلة ليست أفراد الجماعة إنما صيغة الجماعة. كيف صور المسلسل هذه الصيغة، وأين هى الجماعة الحقيقية من جماعة المسلسل يبقى هذا حديثنا القادم. [email protected]