«فى البدء تكون الديمقراطية»، هذا ما يمكن أن تعرفه بإيجاز، كملخص لثلاثة أيام شاركت خلالها فى مؤتمر حول النزاهة والشفافية، استعرض عدداً مميزاً من الدراسات والأوراق المعنية بتفاصيل الفساد الدقيقة، بدءاً من استعراض بحث عن مدركات المواطنين المصريين للفساد، والحديث الذى لا ينقطع عن حرية تداول المعلومات وعلاقتها بالفساد، وما يسببه وضع الحكم المحلى والمجالس الشعبية الحالى من بيئة مناسبة لتفشى الفساد، سواء على صعيد القانون الحاكم أو الممارسة التنفيذية، وقضية البيروقراطية كشكل من أشكال الفساد باعتبارها تعويقاً للعمل والإنجاز، والمشتريات الحكومية، وقضية المناقصات والمزايدات التى تعد باب الشيطان فى هذا الصدد، وآليات مكافحة الرشوة سواء عبر أدلة السلوك المهنى، أو من خلال العمل الجماعى، ودور الصحافة فى هذه المكافحة. كانت المناقشات تغرق فى التفاصيل الدقيقة، ثم تصطدم مرة أخرى بالنظام السياسى، والواقع الديمقراطى المتردى، وحالة المشاركة المتدنية، وحجب المعلومات الذى بدا وكأنه مرض خبيث متمكن من الجسد الحكومى، وجهازه الإدارى. لا حل لقضية الفساد إجمالاً فى مصر، دون مناخ ديمقراطى حقيقى يعزز آليات المحاسبة وإتاحة المعلومات، ويعلق المسؤوليات فى رقاب أصحابها الحقيقيين، وتوافر إرادة سياسية كاملة لمكافحته، وإدارة رشيدة لتولى مسؤوليات ومقدرات الجماهير. يمكن أن تضبط قانوناً صارماً للمناقصات والمزايدات، لكنك لا تضمن تطبيقه بكفاءة إلا فى مناخ ديمقراطي، يضمن المحاسبة، ويكفل حرية المعلومات، ولا يخضع لمواءمات سياسية فى الكشف عن الفساد أو التستر عليه، كما يمكن أن تصنع أفضل قانون فى العالم للإدارة المحلية، لكن تطبيقه دون إدارات منتخبة على مستوى المحليات، ومجالس شعبية منتخبة أيضاً وتملك حق الرقابة والمساءلة والاستجواب، وحق وضع موازنة الإقليم وتوجيه الموارد ومراقبة أوجه الإنفاق. يمكن أن تقيد فى القانون حق جهة الإدارة فى تخصيص الأراضى أو منح المناقصات أو قبول التوريدات بالأمر المباشر، لكنك دون إدارة رشيدة يفرزها نظام ديمقراطى يحمل فى طياته آليات المحاسبة والمتابعة والمكاشفة، لن تأمن الالتفاف على القانون، سواء بتقديم تفسيرات مختلفة للنص القانونى الواحد، أو بالاستناد إلى معايير وهواجس المصالح العليا المرتبطة بالأمن القومى لإسكات الأصوات الباحثة خلف التجاوزات. هل تعتقد أن السلطة فى مصر راغبة فعلاً فى مكافحة الفساد، ولديها مصلحة فى تجفيف منابعه، أم أنها مشاركة بشكل أصيل فى دعم المناخ الموبوء، إما لأنها تشارك فى اقتسام عوائده، أو مستفيدة على الجانب الآخر من مد مظلة الفساد لتشمل قطاعات عديدة من المجتمع، حتى يصبح الفساد هو العمل المشترك الذى يربط بين الجميع، فتصير جميع الأطراف ملوثة، وتصبح بيوت الجميع من زجاج، وبالتالى لا يستطيع من شاركوا فى الفساد أو تورطوا فيه، أن يشيروا لسلطة فاسدة بإصبع اتهام واحد، باعتبار أن الجميع فى الهم سواء. ربما يفسر لك ذلك صمت الدولة أحياناً عن ممارسات فاسدة واضحة تماماً، وإغلاقها ملفات وفتحها ملفات أخرى إلى حين، من باب شدة الأذن وفقط، واعتمادها على منهج «دعه يفسد.. تسهل السيطرة عليه»، وإلا ما أصبح المجتمع كله شريكاً فى الفساد أو الرشاوى أو الصمت على أقل تقدير. مكافحة الفساد تبدأ من أعلى، والديمقراطية هى الحل...! [email protected]