كل شىء سار على ما يرام فى غرفة الولادة. تمت الإجراءات المعهودة بشكل روتينى لا يناسب جلال لحظة الخلق والانبثاق. وبالقطع لم يخطر على بال أحد أن هذا الوليد هو «آدم» الجديد الذى سوف يبدأ تاريخاً إنسانياً جديداً خالياً من «لعنة الأحزان». ■ ■ ■ فيما بعد تذكرت الأم أن وليدها لم يصرخ بعد الولادة، لكنها قالت لنفسها إن هذه الأشياء تحدث ونسيت الأمر برمته. الملاحظات تتابعت فى الأسابيع التالية: هدؤه، ابتسامته، سكونه، النظرة الذكية فى عينيه، وطمأنينته الراسخة. كان من الطبيعى أن يسعدها هذا، لكن المدهش أنها أحست بالقلق. بحدس الأم شعرت بشىء غير طبيعى فى هدوئه وسعادته. مفروض أن يبكى كالأطفال، مفروض أن يتقلص وجهه أحياناً من الألم، مفروض أن يتذمر من الملل أو يحاول أن يجذب الانتباه. هل من الطبيعى أن يمرض فيتحمّل ولا يشكو الألم!؟. يتعثر فلا يبكى بل يستنهض عزيمته. يذهب إلى المدرسة سعيدا مستبشراً، يضربه الأطفال الآخرون فيلاطفهم حتى يكسب ودهم. يُخطئ فيصمم أن يتعلم من الخطأ، يرسب فيؤكد أنه سينجح فى المرة المقبلة. فشل الجميع - ولو من باب التحدى - فى هز طمأنينته الراسخة. طفلى مختلف عن سائر الأطفال!. ما المشكلة طالما يفهم وينمو ويستجيب!؟. يقول الطبيب مندهشاً: لطيف ورقيق ومحبوب!، طيب! احمدى ربنا. تنصرف من عيادة الطبيب محاولة أن تشعر بالارتياح. يبتسم طفلها فى وجهها وكأنه يستحلفها ألا تحزن. لا شىء فى العالم يا أمى يستحق القلق. ■ ■ ■ الجزء العلمى فى الموضوع بدأ حينما أجرى معهد عالمى متخصص أبحاثا كيميائية وجينية متعمقة فى مخ الغلام لمحاولة فهم سبب اختلافه عن سائر البشر. أسئلة طرحوها وحاولوا البحث عن إجابتها: إذا كانت المشاعر النفسية يتم ترجمتها فى المخ عن طريق مواد كيميائية فهل لديه نقص فى مادة ما تجعله عاجزا عن الشعور بالحزن؟ وإذا توصلنا إلى هذه المادة واستطعنا إزالتها فهل يمكن - أخلاقياً - تعميم التجربة على نطاق واسع لجعل الأرض جنة بلا حزن؟. جدل أخلاقى بدأ على الفور. الفلاسفة أبرزوا العلاقة بين الموهبة والمعاناة، ودور الحزن فى النضج الإنسانى، قالوا إن السعادة الدائمة قد تؤدى إلى سطحية البشر، ودون الحزن كيف نعرف السعادة؟. قالوا إن الغلام لا يسمو عن الحزن بإرادته، بل لأنه عاجز عن الشعور به. أما من اكتووا بنار الألم فقد رحبوا بالسعادة باعتبارها الهدف الأسمى للوجود. لم يصل العلماء لشىء حتى الآن، لكنهم واثقون أنهم سيصلون عاجلا أو آجلا لفهم كيمياء السعادة فى مخ الغلام. أما هو فلا يعبأ بهذا الجدل، يضحك فى وجوه الجميع، ويقول إن ما يستحق الدهشة فعلا هو أن الإنسان ينفق عمره القصير فى المشاعر السلبية مع أنه يعلم جيداً أنه صائر إلى تراب!؟.