قدر للسيدة زينب، رضى الله عنها، أن تكون شاهداً على الحوادث التى تتابعت سريعاً منذ وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، فشهدت الأمر ينتقل من «أبى بكر» إلى «عمر» ثم إلى «عثمان» عام 35 هجرية، لتبدأ الفتنة بعد ذلك والتى عملت على تقطيع أواصر المسلمين. كانت «زينب» عندما شبت الفتنة التى انتهت بمقتل عثمان بن عفان فى الثلاثين من عمرها تعيش مع زوجها وبنيها فى دار الخلافة وترقب عن كثب وميض تلك الثورة التى نشبت بعد أن تولى والدها على بن أبى طالب الخلافة ويخوض المعركة تلو الأخرى ويفرغ من موقعة الجمل ليلقى معاوية فى جيش الشام «بصفين» ثم يفرغ منه ليلقى الخوارج فى النهروان، وهكذا لمدة خمس سنوات، وكانت أثناء ذلك ترمق أباها فى حب وقلق، إلى أن كانت ليلة الجمعة 19 من رمضان عام 40 هجرية حيث خرج أمير المؤمنين ليصلى بالناس فى المسجد الأعظم بالكوفة وزينب فى الدار ما تدرى إلا وضجة تعلو آتية من ناحية المسجد، فأمسكت بقلبها فى ذعر مبهم وأصغت فى وجوم وقلق إلى الضجة وهى تقترب من دار الخلافة شيئاً فشيئاً، حتى إذا بلغت ساحة الدار ميزت زينب صيحات مروعة تعلن أن أمير المؤمنين قد قتل، فجمعت كيانها الموشك على التداعى، وتحاملت على نفسها تستقبل أباها الحبيب محمولاً على الأعناق بعد أن أصابته طعنة قاتلة مسمومة من سيف «ابن ملجم»، فتوفى ليلة الأحد من رمضان عام 40 هجرية، ليترك من ورائه ولديه «الحسن» و«الحسين» لخصمه الداهية معاوية. ومقتل على لم يكن سوى حلقة من سلسلة الفواجع التى ألمت بآل البيت ودفعت بهم طعاماً لنار الفتنة العمياء، وبعد أن ثكلت زينب أباها جاء دور شقيقها «الحسن» فبعد أن تنازل عن الخلافة ل«معاوية» بعد أن شد أهل العراق على فسطاطه فنهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته وامتدت يد أحدهم فنزعت مطرفة عن عاتقه، فبقى جالساً متقلداً السيف بغير رداء، وامتدت يد أخرى فأخذت بلجام بغلته وطعنته فى فخذه فازداد لهم بغضاً ومنهم رعباً وولى عنهم وهو يقول: «يا أهل العراق، إنه سخا بنفسى عنكم ثلاث: قتلكم أبى، وطعنكم إياى، وانتهابكم متاعى»، ومرضت «زينب» أخاها الجريح، فلما اندمل الجرح نسيت مواجعها إلى حين وظنت أن نزول «الحسن» عن حقه منجيه من الهلاك، وحاقن دماء من سيوف السفاحين، لكن معاوية كان يريد الخلافة ملكاً أموياً ولن يستطيع أن يأخذ البيعة لابنه «يزيد» والحسن بن على حى يتنفس. وانصرف «الحسن» بعد تنازله عن الخلافة إلى المدينة فأقام بها نحو ثمانى سنوات، وأراد معاوية البيعة لابنه «يزيد» فلم يكن شىء أثقل عليه من أمر الحسن بن على، فدس له سماً عن طريق زوجه جعدة بنت الأشعث بن قيس، حيث أرسل إليها «معاوية» يقول: إنى مزوجك بيزيد ابنى، على أن تسمى زوجك الحسن بن على، ووعدها بمائة ألف درهم فقبلت، وبعد أن أنجزت مهمتها دفع لها معاوية المال ولم يزوجها من ولده معتذراً إليها بأن حياته غالية عليه، وشيعت «زينب» أخاها ثم عادت إلى البيت الحزين بعد أن أرقدوا فقيدها إلى جوار أمها الزهراء بالبقيع. وجاء دور «الحسين» فتهيأت زينب لترعى أخاها وهو يرى الأمر يخرج من بيت النبى إلى بيت أمية ملكاً موروثاً، ولم تمض على وفاة الحسن ست سنوات حتى دعا معاوية جهراً إلى البيعة لابنه يزيد من بعده، فاستوثق له الناس راضين أو مكرهين غير خمسة نفر لم يكن فيهم من هو أحق بالغضب لهذا العدوان من الحسين بن على ولد الزهراء. واستقبلت «زينب» مع بنى هاشم خلافة يزيد بن معاوية فى شهر رجب وما كان ليزيد حلم أبيه أو رزانته أو دهاؤه السياسى، فلم يكفه أنه ورث الخلافة عن أبيه فكان أول وارث لها عرفه الإسلام ولم يشأ أن يدع الإمام الحسين معتكفاً فى المدينة كما فعل معاوية من قبل وإنما أصر على أن يأخذ بيعة «الحسين» والنفر الذين امتنعوا بالحجاز وأبوا أن يجيبوا معاوية إلى بيعة يزيد، فأتى الحسين أهله وألقى إليهم النبأ وأسر إليهم بعزمه على الرحيل إلى مكة، وتسلل بأهله منها حذراً يترقب تحت جنح الظلام قبل أن يبزغ القمر فينم عنهم، ولم يترك بالمدينة غير أخيه محمد بن الحنفية، وأجهدهم السير أياماً وليالى ذات عدد حتى شارفوا مكة ولم يقيموا فيها إلا ريثما تلقوا رسل أهل الكوفة مبايعين إمامهم الحسين وجاءته كتب القوم: أن قد حسبنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الجمعة مع الوالى فأقدم علينا، فبدأ أهل البيت يتهيؤون للسفر من جديد، ولم يستمع إلى توسل ونصح أبناء عمومته إليه بألا يعود إلى العراق فإن أهلها ذوو غدر. واستبدلت السيدة «زينب» بمكانها فى بيت زوجها عبدالله بن جعفر، مكاناً آخر لها فى بيت الحسين بن على، لتمضى فى صحبة أخيها ويبقى الزوج بالحجاز، وتلفتت «زينب» وراءها مرة واثنتين ترنو إلى الربوع الغالية المقدسة وفى قلبها شجن، فلقد هاجرت إلى العراق من قبل يوم كان لها أب ملء الدنيا واليوم تسير إلى العراق مرة أخرى مثقلة بمتاعب أعوام زادت على العشرين، ثكلت فيها أباها وأخاها «الحسن» ومعهما المرح ثم الشباب، وتترنح الدموع فى مقلتيها وهى تلقى نظرة ملؤها الرحمة والحب والحزن على الركب، فهؤلاء هم كل من لها أخوها، وبنوها، وبنو أخويها، وبنو عمها، هؤلاء هم آل الرسول وزهرة بنى هاشم وزينة قريش يهجرون ديارهم إلى مصير مجهول لكنه محتوم، وبينما هم يسيرون إذ أطبق على الجو غيم كثيف تكشف عن الحر بن يزيد فى ألف فارس. وفى أعقاب مذبحة «كربلاء» واستشهاد شقيقها «الحسين» سيقت السيدة «زينب» ومن تبقى من آل رسول الله فى الأسر، إلى يزيد بن معاوية، الذى أمر بأن يساقوا إلى المدينة ويقيموا مأتمهم، وأرادت السيدة زينب بعد ذلك أن تقضى ما تبقى لها من العمر فى جوار جدها الرسول، لكن بنى أمية كرهوا هذا المقام، فأمر يزيد أن يفرق البقية الباقية من آل البيت فى الأقطار والأمصار، فخرجت من مدينة جدها الرسول ثم لم ترها المدينة بعد ذلك أبداً، فرحلت تريد مصر وجاوز الركب السارى أرض الحجاز وأشرف على أرض النيل، حيث لا أهل ولا وطن. وبزغ هلال شعبان عام 61 هجرية فى اللحظة التى وطئت فيها السيدة أرض النيل فإذا جموع الناس احتشدت لاستقبالها وساروا حتى بلغوا قرية قرب بلبيس، فقابلتهم هناك جموع أخرى آتية من عاصمة الوادى الأمين، فلما أطلت عليهم بطلعتها المشرقة بنور الاستشهاد أجهشوا بالبكاء، ولحقوا بركبها، حتى إذا بلغت العاصمة مضى بها مسلمة بن مخلد الأنصار، أمير مصر، إلى داره فأقامت بها قرابة عام لم تر خلالها إلا عابدة متبتلة، ثم كانت نهاية المطاف فماتت السيدة زينب، عشية الأحد ل14 رجب عام 62 هجرية.