أستعير العنوان أعلاه من مواطن مصري خفيف الظلّ، حمل ذات يوم من أيّام الثورة، يافطة تنادي بسقوط الرئيس القادم. حدث ذلك قبل شهور مما آلت إليه الانتخابات الرئاسيّة المصريّة في جولتها الأولى، والتي وضعت مصر والأمة أمام واحدٍ من خيارين أحلاهما مرّ: عودة الفلول، أو طغيان الإسلام السياسي! هل كان المواطن المصري خفيف الظلّ يمتلك عينين رائيتين مستعارتين من زرقاء اليمامة، أم إنه رأى بعين قلبه التي لا تخيب، شجراً معادياً قادماً يتحرّك في المدى البعيد، حاملاً وعود الدم والدمار والخراب العميم!؟ دعونا نتجنّب الحديث عن الديمقراطيّة والخيار الشعبي الحرّ والانتخابات النزيهة. فديمقراطيّة الصناديق تبقى باطلة إذا ما تمّ بلوغها بطرق ملتوية، أقلّها استخدام الأموال والسِّلع الاستهلاكيّة لشراء الذمم والأصوات الانتخابيّة. وإذا كانت اللجنة العليا للانتخابات قد غضّت الطرف عن تجاوزات بعض المرشحين وإفراطهم في تقديم الرشاوى النقديّة والعينيّة لمواطنين غلابى جرى استغلال عوزهم، فإن كلّ طفل يجري في حواري وأزقة ونجوع المحروسة، بات يعلم علم اليقين أسماء المرشحيْن اللذين سجلا مخالفات لا يستهان بها على هذا الصعيد، مع تحديد الجهات المموِّلة على وجه العموم، وفي مقدمتها: الدول العربيّة النفطيّة؛ ورجال الأعمال المرتبطة مصالحهم الاقتصاديّة بنظام مبارك وحماته من العسكر وفلول الحزب الوطني المنحل.. الساعين إلى عودة النظام برأس جديد؛ ثمّ من جهة أخرى وبالمقابل: تنظيم الإخوان المسلمين الذي يملك أموالاً لا تُعدّ، وتتدفّق عليه مساعدات لا تتوقّف، يسعى مورِّدوها النفطيون، من خلالها، إلى الزّج بمصر إلى حظائر الظلام والفكر الوهابي الموغل في التخلف. رشاوى، هي الكلمة المناسبة للحديث عن المال الانتخابي الذي سُفح في المعركة الرئاسيّة. وإذا كان الفساد والإفساد الذي مارسه نظام ماقبل ثورة 25 يناير قد واصل أسلوبه المعهود، فكيف لنا أن نفهم تنظيماً يلهج بذكر الإسلام ويقترح نفسه على المواطن بديلاً نظيفاً، مستثمراً قدراته على التضليل بوعود السماء والتلويح بمفاتيح الجنّة لكسب أصوات الفقراء، مرفقة بأعطيات عينيّة، أن يلجأ نفسه إلى الرّشوة، ما يدعونا إلى التساؤل: أين ذهب الحديث الشريف عن الراشي والمرتشي، الذي يجري فيه تقديم الراشي إلى النار، خاصّة وأنه لا يكفّ عن ترديد اسم الله. أين يختفى هذا الحديث ويغدو هباء منثوراً في كلّ الانتخابات التي يخوضها دعاة الاسلام السياسي؟! وإذا كان مرشح الفلول قد بنى جانباً من رهاناته على قوّة النظام القديم، ومنها الآلة الاعلاميّة الرسميّة التي لم تسقط مع سقوط رأس النظام، وسخّرت نفسها له ، فإن مرشّح الإخوان اعتمد على التأثير الإعلامي العاطفي للجامع، وتوجيه خطاب المسجد الذي تهيمن عليه قوى الإسلام السياسي أو تؤثِّر فيه، للدعوة لانتخاب المرشّح الإسلامي. بعد ذلك يمكننا أن نشير بوضوح، ودون لبس، إلى المرشحيْن اللذين بلغا مرحلة الإعادة، وهما في انتماءاتهما السياسيّة والأيدولوجيّة، معاديان للديمقراطيّة في أسسها وجوهرها. وحتّى لو اعترفا بها من خلال صندوق الاقتراع الذي يمكن اختراقه أو التحايل عليه بطرائق شتّى وغير مشروعة، فإن كليهما مهيئان للانقلاب عليها بمجرّد الإمساك بزمام السُّلطة. نظرة سريعة إلى معركة الجولة الثانية للسباق الرئاسي في أيامها الأخيرة، تجعلنا نرى بعض ملامح هذا الانقلاب غير الديمقراطي. فمرشح الفلول وأفراد حملته لا نراهم إلاّ وهم يهددون ويتوعدون منافسيهم، مؤكدين أنهم سيضعون حداً للتظاهر والاعتصام، بمعنى أنهم سيقضون على الثورة. أمّا مرشّح الجماعة وحزبها، فإنهم لا يكفّون عن التهديد بإشعال مصر إذا لم يفز مرشحهم. أي أن المرشحيْن يعلنان بوضوح، بأن الواحد منهما لا يحترم الخيار الديمقراطي إذا كانت نتيجة التصويت لا تُحسم لصالحه. فكأن لسان حالهما يقول: إن كلّ ديمقراطيّة لا تكون نتائجها لي ومعي، لا يعوّل عليها! لكن ما لا يعوّل عليه حقيقة، هو بلوغ أحد المرشّحيْن غير الديمقراطيين كرسي الرئاسة، في عمليّة انتخابية توهّم البعض أنها شكّلت، في مرحلتها الأولى، "عُرساً ديمقراطياً"، فيما تشير الاحتمالات القادمة بأنه ستتحوّل إلى "عزاء للديمقراطيّة"! ربما لا نغامر عندما نقول أن الموضوعيّة والرقابة القانونيّة للانتخابات، كانت تقتضي استبعاد المرشحيْن اللذين بلغا المركزين الأوّل والثاني في مرحلة الإعادة، وأن تجري عمليّة الإعادة بين المرشحيْن اللذين بلغا المركزين الثالث والرابع بجدارة، ومن غير تجاوزات، وقد ينضم إليهما المرشّح الخامس أيضاً، إذا استدعى الأمر. لكن الانتخابات انتهت، حتى كتابة هذه السطور، إلى مرشحيْن أحلاهما مرّ.. لقد زجّ الكتّاب والفنانون والمثقفون المصريون والعرب المعنيون بالشأن المصري، أنفسهم، في مختبرات البحث في المرّ والأشد مرارة. دون أن يصل أحدٌ إلى نتيجة مقنعة. وقد رأينا علمانيين يروجون لمرشح الجماعة بحجة انتماء الإخوان إلى الثورة. كما رأينا مثقفين وقادة يساريين يروجون لمرشّح الفلول، في محاولة لدرء أخطار ظلمة سياسيّة استبداديّة/ إسلاميّة قابلة للترسيخ. كنّا نود لو أن الشعب المصري قد استعاد تجربة "البصيرة" التي فصّلها ساراماغو في روايته، فلم يقاطع الانتخابات ولم يفرِّط بصوته، ورفض منح ثقته لمرشح لا يليق بمصر سياسياً وثقافياً وفكرياً، وتعوزه على المستوى الشخصي الإمكانيات القياديّة التي تتناسب وحجم مصر. وكم تمنينا لو قدّم أفراد هذا الشّعب، أو غالبيته المطلقة، في الصندوق، ورقة بيضاء تعبِّر عن حجم الرّفض للمرشحيْن معاً، ليقول الشّعب بوضوح ما قالته اليافطة التي حملها رجل بسيط ذات يوم في الميدان: "يسقط الرئيس القادم"! ----------------------------------- [email protected] (نقلا عن الأيام الفلسطينية)