كل مصري فوجيء بعد الثورة، بأن صديقاً حميماً له، ورفيقاً من رفاق العمر، يقف على النقيض منه سياسياً، إما بالانتماء إلى "فصيل" الفلول، أو إلى "فصيل" الفئة المندسة، الذين اختلف الناس حولهما، اختلافا لم تشهد له مصر مثيلاً. التعايش مع الخلاف، واقع جديد، لم نجربه من قبل، وأمامه يمعن مولولون في ذرف الدموع "دموع تماسيح أو دموع صادقة"، متفيقهين متشدقين بأن الخلاف سيؤجج حرباً، ستكون أقسى من داحس والغبراء، وأشد مكراً ودهاءً من حرب طروادة، وأكثر ضراوة من حروب المغول وغزوات التتار! قطاع عريض يترحم، على أيام خلت، كان الناس فيها سمناً على عسل، لا يخوضون النقاشات البيزنطية لساعات، ولا يعلو الصراخ تشبثاً برأي، أو تنفر عروق الوجه حماساً وغضباً، إذ يحاول أحدهم إقناع الآخرين بوجهة نظر ما، وإذ يسوق لهم المبررات والأسباب والمعطيات والبراهين. والحقيقة إن الترحم على الماضي، أو التشبث بما سبق، يعد سمةً أصيلة في التكوين النفسي للشعب المصري، صفة يرصدها علماء النفس الاجتماعي، في ممارسات منها مثلاً: الوفاء للأموات بالمواظبة على زيارة المقابر، والاحتفاء بموالد أولياء الله الصالحين، والعودة من حين لآخر لتفقد مسقط الرأس، إلى آخر هذه العادات المتجذرة في وجدان المصريين. على أن ما يتسم به المصريون، من سمة الوفاء لماضيهم، لا يمكن أن يبرر الحنين إلى العهد الذي غبر، والأرجح أن ما يبديه بعضهم أو كثيرهم من لوعة وأسىً على مجتمع القوالب الجامدة المتشابهة، سلوكاً فيه الكثير من سذاجة وبداءة التفكير، أكثر مما فيه من النضج والتعقل، فالمصريون في العهد البائد، لم يكونوا متفقين، وإنما كانوا مكبلين، كانوا كالأسماك في الأحواض، محصورة دنياها بين أربعة حواجز من زجاج. كان لكل مصري شرنقته محكمة الإغلاق، يعيش داخلها، ولا يخرج منها لينظر العالم الخارجي. كل هذه الفسيفساء السياسية والفكرية، التي تشكل الشارع المصري الآن، لم تولد من العدم، وإنما كانت موجودة ترزح تحت أغلال الصمت، والصمت بالضرورة يؤدي إلى تراكم جبال الشك والريبة، ويعزز التشرذم والتشظي أكثر مما يعزز التقارب والتكامل، وهو علاوةً على ما سبق، يفضي إلى العداوة مع الآخر، ذلك أن الإنسان عدو ما يجهل. إذن، فإن ما تفور به شوارع وأزقة مصر الآن، من تصارع أو تناحر أفكار، ليس مدعاة لإقامة سرادق عزاء، نولول فيه ونستدعي الأحزان والأسى، فمصر تشيع الركود والصمت، غير مأسوفٍ عليهما، تصحبهما اللعنات جراء ما خلفاه في جسدها، من تصلب شرايين الإبداع، ونضوب مياه التفكير. نحن نختلف إذن نحن موجودون. ونحن أحياء. نحيا باختلافاتنا وهي التي ستقربنا وستوحدنا، بعدما ننصهر بنيرانها، مثلما تنصهر قطعة الحديد بالنيران المستعرة، فتتشكل منها الأعمال الفنية البديعة، وتتكون منها الأدوات اللازمة لممارسة التحضر والتمدين. فأهلاً بالخلاف والبعث والحياة، ومرحباً بأهم معجزات الثورة، لا فقط ثمارها.