عفوا .. لسنا ممن يحترفون رؤية السيئ ، بل نعشق وطننا بمره قبل حلوه ، وطنا نهديه ينابيع الحب والهوى وفيوضات التصافي وهو يبادلنا العشق فيهدينا سكين الرحمة !! لا تدهشون فالوطن يلقنا ان السكين خير معلم ومربٍ ، فها هو الصبي ذو الخمسة عشرة ربيعا يقنع بالخبز الحاف طعاما لكن بطنه تأبى " فتجرأ " وطلب من أمه كسرة " إضافية " ، وهنا تفاجأت الأم " بتطلعات " وليدها وهي العاجزة عن تلبية مطلبه ، ولأنه لامس ضعفها وخوفا من انتقال العدوى لباقي أولادها لم تدر إلا والسكين بيدها ينغرز في صدر فلذة كبدها تلقنه ما تعلمته من الوطن الحاني القاسي أن " الخبز الحاف رفاهية لا تغتفرلمرتكبيها " ، ثم تنهار الأم صارخة ( كان يا حبة عيني جعان ، وكنت مغلولة من ضعفي وعجزي أمام ضنايا ) ، وكانت تلك إشارة تحذيرية لمن " يلمس ضعف الآخرين " فهل من مدكر ؟ وأخريات أبين أن يأكلن بأثدائهن فبعن أولادهن أو أحدثن عاهات و حروقا في أجسادهم الغضة البريئة ليتسولن بهم وليعشن كل يوم مذلة الضعف والهوان وأشد مشاعر الإنسانية إيلاما ، في بلاد لم تكتف بقتل أبنائها حسرة وظلما بل وجوعا أيضا .. السؤال الآن من قتل من ؟ الأم قتلت طفلها أم الوطن يقتل أحباءه ؟ تجردت الأم من أمومتها أم تجرد الوطن من حيائه ؟ أصبح وطننا سمته الصلف والغرور والتعالي والتغاضي ، وصرنا في هيئتنا الخارجية نبدو " أناسي " وفي دواخلنا وحوش عاجزة عن الحزن ، حين غاب الهدهد أعلن النبي سليمان عليه السلام " لأعذبنه عذابا شديدا أولأذبحنه " وفسرالعلماء هذه الآية القرءانية الكريمة بأن الذبح أرحم من التعذيب ، وهكذا فطنت الأم دون أن تفقه يوما قول النبي أو حتى تقرأه . هذا الحادث المفجع الذي يؤذ ضمائرنا ويؤرق مضاجعنا هل اعتبرناه ؟ ترانا أدركنا أن الجوع لم يترك ركنا إلا ونصب خيامه في الوطن وضرب في أطنابه ؟ ورغم أن مواردنا لم تشح وأرضنا لم تعقم عن الإنبات إلا أن الناس يئسوا من بلد لم يعودوا يسألوه أعطاهم أم جحدهم ، بل يقتلون ابناءهم هربا من فقر أحنى الظهور ومن العوز والجوع الذي استعاذ منه نبينا صلى الله عليه وسلم واصفا إياه بقوله " بثس الضجيع " .. ترانا في الصومال أم في بلاد أطعمت العالم كله من قمح سنابلها حين أجدب وجاع وضربته عجاف السنوات السبع ؟ لكنه كان تحت حكم الصديق عليه السلام فلم يفعل فعلة الظالمين الذين يستولون على خيرات الوطن ويتركون الجياع مشردين يفترشون المقابر والطرق العفنة المظلمة ويلتحفون السماء ولسان حالهم يقول لمن ظلمهم : " هَبْ أنْ قد ملكت الأرضَ طيراً ... ودانَ لك العباد فكان ماذا ؟ ... أليس غداً مصيرُك جوفَ قبرٍ ... ويحثو الترابَ هذا ثم هذا ؟! " ماذا نقول لتلك الأم التعسة ؟ أ نقول لها ماقاله النبي صلى الله عليه وسلم لفقير مثلها أن يحتطب ؟ وأنى لها الحطب تلك المسكينة ؟ أم نلعن من فسدت ضمائرهم ؟ أم نُسمعهم صوت بطن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيقول لها " قرقرِ أو لا تقرقرِ والله لا تشبعِ حتى يشبع أطفال المسلمين ؟ أم نذكرهم بعمر بن عبد العزيز الذي كان ينثر القمح على قمم الجبال حتى لا يقال " جاع طير في بلاد المسلمين " ؟ أم ندرك ما أدركته الصين حين أقالت المفسدين ومنعت كبار رجال الدولة من مزاولة أية أنشطة تجارية فقضت بذلك على مجاعة طالت نحو 600 مليون صيني ؟ هل ننتظر ربيعا بل جحيما ينمو تحت أرجل الحفاة العراة الجوعى أم نقول لهم ( نامِ جياع الشعب حرستك آلهة الطعام ) ورغم ذلك رفض الجياع الانصياع ولم يناموا بل ثاروا على من سرق لقمة أفواههم وامتلأت معدته ونام بعمق فاستيقظ مرعوبا على أصوات جياع فرنسا تلاها جياع روسيا القيصرية .. وما فعله الجائع التونسي " بوعزيزي " ليس ببعيد ، إنه التفاوت الطبقي السرطاني الذي تنمو خلاياه الخبيثة بشراهة متناهية ومقصودة والتي تنبه إليها الفاروق بن الخطاب رضي الله عنه حين قال لوال يستعمله " ماذا تفعل لو جاءك سارق ؟ فقال الوالي : أقطع يده . فرد عمر : وإن جاءني من رعيتك جائع قطعت يدك " وأعلن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " عجبت لجائع لا يخرج شاهرا سيفه " . إلى متى ينتظر الجائعون وطنا يتعمد الكثيرون إظهار جفائه وقسوته وإخفاء حنانه ومودته ؟ يا وطني الحاني القاسي .. شئت أم أبيت لا نرض بغيرك بديلا ، فصلاتنا في محرابك أقدس تبتيلا .. ولكن قليلا من الرحمة لمحبيك وعاشقيك .